سنة على جريمة محمد أبو خضير: حياة سلبها المحتلون

سنة على جريمة محمد أبو خضير: حياة سلبها المحتلون

02 يوليو 2015
كان محمد يشيع البهجة أينما حلّ (العربي الجديد)
+ الخط -
دبكة في الأعراس، ودبكة في حفلات التخرج، توزيع جداول التقويم الرمضاني، ورفع زينة رمضان على الأعمدة في حارته، هكذا بدا الشّهر الأخير من حياة الطفل الشهيد محمد أبو خضير (16 عاماً)، ابن قرية شعفاط شمالي القدس المحتلة، والذي اختطفه ثلاثة مستوطنين في الثاني من يوليو/تموز من العام الماضي وقاموا بحرقه حيا وقتله. 

كان محمد عضواً نشطاً في فرقة دبكة محليّة في قريته شعفاط باسم "فرقة سيدي حسن"، وهو الجدّ الأكبر لعائلة أبو خضير. وكانت تقدم عروضها في القرية وخارجها تطوعاً وحباً في فن الدبكة الشعبيّ. تقول سهى أبو خضير، والدة الشهيد، لـ"العربي الجديد": "محمد دبك في أعراس كل الناس. وكلّ الناس كانت في عرسه"، وتقصد بذلك جنازته التي شارك فيها الآلاف.

في الذكرى السّنوية الأولى لاستشهاد محمد تحكي والدته سهى ووالده حسين عن الألم الذي لم يبرح مكانه. في اليوم الأول من رمضان، الشّهر الذي استشهد فيه محمد، حضّرت سهى الطعام لأولادها وبناتها، لكن محمد لم يكن بينهم، لم تستطع سهى مشاركتهم طعام الإفطار وآثرت الانفراد باكية. يقول الوالد "كان عاماً صعباً للغاية، في كلّ مرة نذهب فيها إلى جلسة المحكمة كان الألم يتجدد أكثر فأكثر، خصوصاً عندما نرى مرتكبي الجريمة أمامنا، نخرج من المحكمة بحالة نفسية أسوأ". 

أبواب الذكريات لا تنتهي، ففي يونيو/حزيران من هذا العام، صادف موعد تخرج محمد من المدرسة، وقد أطلقت المدرسة على فوجها لهذا العام اسم "فوج الشهيد محمد أبو خضير" كما فعلت مدارس عدة في فلسطين، وكان في مقدمة المدعوين إلى حفل التخرج والدا محمد. لم تكن المشاركة بالأمر الهيّن. يقول حسين وهو يعرض صور التخرج التي بدا فيها تأثره ودموعه هو وزوجته: "كنا نبكي حرقة على غياب ابننا في مثل هذا اليوم". فيما تضيف سهى: "كان يدور في عقلي التفكير بأن كل الشباب أصحابه تخرجوا. وابني لم يتخرج، والحمد لله".

وبعد وقت وجيز من استحضار الذكريات، راحت الوالدة تسرد وحدها صفات محمد. تضحك هنيهة، ثم تدعو "الله يرضى عليك يما" وفي عينها مسحة من حزن. 

كان محمد كثير الحركة وعالي الصوت، تقول الوالدة "كنت أعرف أن محمد وصل إلى البيت من صوته على عتبات الباب في الطابق الأول". كان يشيع الحركة في البيت، يغنّي ويدبك، وفي كل مرة كان يتعلم أمراً جديداً في فنّ الدبكة، يأتي إلى والدته ويريها ما لديه من جديد، فتعلو في البيت أصوات الدبكة والغناء.

وعن علاقاته بمن حوله، تقول سهى: "كان محمد اجتماعياً، يتصرف كالكبار إذا مرّ أحدهم من باب البيت ينادي عليه يدعوه للغداء.. وفي الوقت نفسه روحه مرحة ويهوى اللعب". تتحدث والدته عن مساعدته لشبان العائلة في توزيع دعوات الأعراس، وكيف كان يلف على بيوت عائلة أبو خضير ينصح النساء مازحاً بعدم تخبئة أموالهن ويطلب منهم التصدق لصالح صندوق العائلة. 

وعندما توفي جده قبل عامين، كان يسعى إلى أن يبقي ذكراه حيّة، فكان يطلب من أمّه تحضير الحلويات والمعجنات ليوزّعها في المدرسة عن روح جدّه. وكان طبيب جدته "يدللها، ويلبي طلباتها ويدلك لها ظهرها ليخفف آلامها". أما والدته، فلم يكن يحب أن يراها حزينة أو متعكرة المزاج. تقول سهى: "محمد كان يمزح 24 ساعة، إذا رآني في مزاج سيئ، يبقى حولي ويصر ألا يتركني إلا عندما ابتسم".

ذكريات الأصدقاء

عبد الحكيم أبو خضير وأحمد حمد هما بعض من أصدقاء محمد الكثيرين، يستحضرون تفاصيل اختطافه. يقول أحمد: "كنا نسهر معاً بشكل يومي، خصوصاً مع بداية شهر رمضان. في اليوم الذي خطف فيه لم يكن أحدٌ منا معه، أنا كنت نائماً وعبد الحكيم في منزله والآخرون مشغولون في أمر". يكرر الصديقان بعضاً من الصّفات المرحة التي تحدثت عنها والدته، ويقول أحمد: "فعلاً كان صوته دائماً مرتفعاً"، يطأطأ رأسه قليلاً، ويتابع: "لكنه يوم خطفه لم يسمع صوت صراخه أحد".

كان أحمد آخر من كلم الشهيد أبو خضير قبل اختطافه بواسطة تطبيق "فايبر". يقول "أيقظني والدي بعد انتشار الخبر وخرجت مسرعاً في محاولة للبحث عن محمد". كانت آلية تحديد المكان المفعلة في تطبيق "فايبر" قد مكنت أحمد من الحصول على مكان تقريبي للشهيد أبو خضير الذي كان يحمل هاتفه النقال. يتابع "بحسب الهاتف الذكي ظهر لي بأن مكان هاتف محمد يقع بالقرب من قرية دير ياسين، وذهبت هناك أنا ومجموعة من الأصدقاء للبحث عنه، ولكننا لم نعثر عليه، وفي طريق عودتنا رأينا في المنطقة سيارات الإسعاف، لم يخطر في بالنا أن الحديث يدور عن محمد. عرفنا أنه فعلاً قتل في دير ياسين عند عودتنا إلى البيت".

أما عبد الحكيم فيروي أن آخر مرة رأى فيها محمد كانت قبل استشهاده بيوم واحد، رآه وهو يزين الحارة الغربية لشعفاط بمصابيح ملوّنة احتفالاً بشهر رمضان. يضيف أن محمد وقبل اختطافه بيوم واحد كان يحذر نسوة الحارة بالقول لها"انتبهي لأولادك.. هناك محاولات خطف"، وذلك في إشارة إلى محاولة فاشلة لخطف الطفل موسى زلوم من قبل نفس العصابة التي اختطفت وقتلت أبو خضير.

القدس بعد أبو خضير

يقول عبد الحكيم "بعد استشهاد محمد بدأت المواجهات في شعفاط، أوقف أهالي القرية سير القطار الإسرائيلي الخفيف الذي يمرّ وسطها، وجاء الشبان من مختلف أحياء سلوان والعيسوية وبيت حنينا وغيرها للمشاركة في المواجهات". منذ ذلك اليوم، تطورت المقاومة الشعبية في القدس المحتلة ومستوى الوعي الشعبي لها؛ فحالات إلقاء الحجارة على القطار الإسرائيلي وسط شعفاط ما زالت مستمرة حتى اليوم، كما طرأ ارتفاع ملحوظ في حدة التظاهرات والمواجهات مع قوات الاحتلال داخل المدينة المقدسة، عدا عن تأثر الكثيرين بدعوات حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية. 

يتفق والد محمد مع ذلك ويرى أن هناك تأثيرا ملموسا على شباب مدينة القدس بعد استشهاد ابنه وبفعل اشتعال المواجهات في المدينة منذ ذلك الحين. ويقول "لاحظت مثلاً أن شباب شعفاط أصبحوا أكثر وعياً، في نظرهم لا توجد إمكانية للتعايش مع الإسرائيليين، أصبح كثيرون ينظرون إلى فكرة التسوق لدى الإسرائيليين على أنها فكرة مرفوضة. هذه الحادثة أنقذت جيلاً كاملاً وأثرت فيه".

اقرأ أيضاً: "القوة الناعمة"... أداة الاحتلال لكسب قلوب المقدسيين وعقولهم

كما كانت حادثة استشهاد الطفل أبو خضير وتزامنها مع العدوان الأخير على غزة لحظة فارقة ومؤثرة في الوعي الوطني في القدس، فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمختلف أذرعها تنبهت إلى هذا الوعي المتصاعد. وفي سبيل مواجهة ذلك، بدأت هذا العام بضخ الأموال وتنفيذ مشاريع ترى أنها ستساهم في هزّ الانتماء الوطني الفلسطيني لدى فئة الشباب في القدس، وتزيد من ارتباط أهلها بمؤسسات الاحتلال وفي المقدّمة البلدية. من بين تلك المشاريع، تكثيف برامج تربوية لطلاب المدارس في ساعات ما بعد الظهر لضمان عدم انضمامهم إلى المواجهات ضدّ شرطة الاحتلال، بالإضافة إلى محاولات بناء شبكة علاقات جديدة وموسعة مع من يسوقهم الاحتلال على أنهم "وجهاء" يمثلون مصالح أهالي القدس، وغيرها من الوسائل.

جلسات المحاكمة

عندما سؤال حسين أبو خضير عن جلسات المحاكم الطويلة، بدا امتعاضه واضحاً لقلة الاهتمام الشعبي والرسمي بمساندة العائلة في هذا الخصوص. يقول "كل واحد من المستوطنين الثلاثة له ثلاثة محامين، أي أن هناك تسعة محامين إسرائيليين، في مقابل محامٍ فلسطيني واحد يرافقني وزوجتي في المحاكم". يستدرك قائلاً: "في مثل قضايا كهذه، لا يكون لمحامي الضحية أي دور في المحكمة في ظلّ وجود المدعي العام، ولكن مع ذلك لا بد أن يكون هناك محام يوفر دعما قانونياً للعائلة ويتابع تطورات القضية". 

ويشير أبو خضير أنه تلقى وعودا من قبل جهات رسمية فلسطينية بتخصيص محامٍ له في هذه القضية، إلا أن هذه الوعود لم تنفذ على الرغم من مرور عام كامل على بدء إجراءات المحاكم، مما اضطره إلى تعيين محام بنفسه وتحمل التكاليف التي قد تترتب على ذلك. 

على المستوى الشعبي، دعت العائلة في أكثر من مرة إلى تظاهرات أمام المحكمة المركزية الإسرائيلية أثناء انعقاد جلسات المحكمة، ولكن الحضور لم يزد في أفضل الأحوال على 15 مشاركاً، فيما غاب حضور مؤسسات المجتمع المدني بشكل واضح. يقول حسين: "سألني أحد الصحافيين مرة ما هي المؤسسات التي تساندك قانونياً في المحكمة، أجبت أم الرائد وأبو الرائد"، يقصد أنه وزوجته لوحدهما يواظبان على حضور المحاكم من دون أي مساندة.

أما عن تطورات محاكمة المستوطنين مرتكبي الجريمة الثلاثة ( وهم بالغ وقاصران اثنان)، فقد عُقِدت حتى تاريخ اليوم 17 جلسة للمحكمة، تمت فيها قراءة لائحة الاتهام التي أنكرها المستوطنون أمام هيئة القضاة، مما أدى إلى عقد جلسات مطولة لسماع إفاداتهم وإفادات مختلف الشّهود من أفراد شرطة الاحتلال وأفراد عائلة زلوم (الطفل الذي حاول المستوطنون اختطافه وفشلوا) والطبيب الشّرعي الذي شرّح جثمان محمد. 

وقد تراجع المتهم الرئيس يوسف حاييم بن دفيد أثناء المحاكمة عن أقواله التي أدلى بها أمام محققي شرطة الاحتلال فور اعتقاله في يوليو/تموز من العام الماضي، ورفض حتى الآن الإدلاء بأي تصريح أمام هيئة القضاة في المحكمة. أما المستوطن الثاني الذي كان برفقته يائير بن دافيد، فقد قال في المحكمة إنه كان "تحت ضغط وأوامر من عمه يوسف، ولم يكن باستطاعته رفضها هو والمستوطن الثالث".

وفي الجلستين الأخيرتين اللتين عقدتا مطلع شهر يونيو/حزيران الماضي، عرضت المحكمة تسجيلاً مصوراً للمستوطنين الثلاثة مجتمعين في محل النظارات الطبية الذي يملكه يوسف بن دافيد. ويبدو المستوطنون الثلاثة في التسجيل وهم يخططون لعملية الاختطاف ويتدربون على كيفية التصرف وضرب المخطوف والتعامل معه. كما عرضت المحكمة تسجيلاً مصوراً للمستوطنين الثلاثة يعترفون بجريمتهم ويروون تفاصيلها. 

وبحسب تعليق المحامي مهند جبارة، الذي يتابع القضية برفقة عائلة أبو خضير، فإن جلسة المحكمة المقبلة ستجري في 15 من شهر يوليو/تموز الجاري، ومن المتوقع أن تقرر المحكمة الإدانة من عدمها. ويوضح المحامي جبارة بأنه في حال تمت إدانة المستوطنين الثلاثة بتهمة القتل مع سبق الإصرار والترصد، فإن عقوبة البالغ منهم حسب القانون الإسرائيلي هي السّجن المؤبد، أما فيما يتعلق بالقاصرين، فإن أقصى عقوبة ممكن إصدارها  عليهما هي السّجن المؤبد ويمكن للقضاة تخفيفها إلى ما دون ذلك بحكم عمرهما.

إلا أن المحامي جبارة يلفت إلى أن هناك محاولات يجريها طاقم الدفاع من أجل تخفيف العقوبة، فعلى الرغم من أن طبيبا نفسيا إسرائيليا قد فحص المتهم الرئيس البالغ، يوسف بن دفيد، وأفاد بأنه "سليم عقلياً"، إلا أن طاقم الدفاع طالب بكشف نفسي آخر يجريه طبيب أجنبي مطلع الشّهر الحالي.

إضافة إلى ذلك، هناك محاولة من قبل القاصرَين بالتركيز على ادعاء أنهما كانا "تحت سيطرة كاملة من طرف المتهم الرئيس البالغ"، وبالتالي قد يعطيهم هذا الأمر حصانة في إجراءات المحكمة، ويخفف الحكم عنهم. كما يحاول المتهمون الثلاثة الادعاء بأن الطفل أبو خضير توفي قبل أن يتم حرقه، وأن السبب الرئيس للوفاة هو ضربة قاضية وجهت له وهو في السّيارة، ولم يحرق حيّاً، وذلك بعكس تقرير الطبيب الشرعي الذي أثبت ذلك، وذلك يصب بطبيعة الحال في تخفيف العقوبة.

في نهاية الأمر، يستبعد جبارة أن تصدر المحكمة حكماً بتبرئة المتهمين، لثبات الأدلة ووضوحها، ولكون دولة الاحتلال  "تسعى لتجميل وجهها أمام العالم وإظهار أنها تقف مع العدالة، خصوصاً في قضية أثارت صدى عالمياً كقضية أبو خضير"، وفق تعبيره.

المساهمون