العراق: "قانون العشائر" بدلاً من الدولة

العراق: "قانون العشائر" بدلاً من الدولة

14 يونيو 2015
العدالة الرسمية غابت لمصلحة عدالة العشائر (أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -
تراجع دور القضاء العراقي في البلاد إلى مستويات خطيرة خلال العام الجاري، بالتزامن مع صعود ما يُعرف بـ"القضاء العشائري" أو "قانون العشائر"، الذي بات الفيصل الأهم في حلّ النزاعات بين المواطنين. ويتزامن صعود "القانون العشائري" مع ارتفاع في مؤشر عدم ثقة المواطن بالقضاء الرسمي، بسبب استشراء الفساد والمحسوبية فيه، وانغماسه في بيروقراطية بطيئة، لا توفر الحماية للمشتكين أو الشهود، عكس المحاكم العشائرية.
ومع استمرار الحرب في العراق وانتشار المليشيات والجماعات المسلّحة وضعف الحكومة، ومعاناة أجهزة الأمن من إنهاك كبير، برزت المحاكم العشائرية بشكل واسع، حتى سجّلت في بغداد وحدها 800 جلسة حكم عشائري في شهر واحد، وفي النجف 1200 جلسة حكم، انتهت جميعها إلى الصلح وإنهاء المشكلة.

وتنظر تلك المحاكم بجرائم القتل والسرقة والشجار والطلاق والزواج والإرث، وقضايا جنائية واجتماعية مختلفة، فضلاً عن قضايا أخلاقية، حتى أنها وصلت إلى قبة البرلمان، في ظلّ احتكام نائبين إلى القانون العشائري، من دون أن يتكلف أي منهما الذهاب إلى المحكمة الخاصة بالبرلمان أو القضايا المدنية.

وتتصاعد قوة الحكم العشائري مع استمرار الترهّل الحكومي، وهو ما أثار مخاوف مثقفين ومراقبين، من احتمال عودة العراق إلى مجتمع البداوة، خصوصاً بعد إطلاق برلمانيين دعوات لإقرار قانون يتعلق بالمحاكم العشائرية، وترسيخها في المجتمع، كأحد أركان القضاء الاجتماعي.

وفي السياق، دعا النائب عن محافظة البصرة، عامر الفايز، إلى "إعادة تشريع قانون العشائر في مجلس النواب العراقي"، مبيّناً أنّ "هناك حملة ستُنظّم لجمع تواقيع نواب لتمرير القانون". وذكر الفايز في بيان صحافي، أنّ "العهد الملكي في العراق شهد تطبيق قانون العشائر، للحدّ من ظاهرة النزاعات العشائرية التي كانت مستشرية في ذلك الوقت، ولكن بعد عام 1958 تم إلغاء القانون".

اقرأ أيضاً إستراتيجية أميركا الجديدة بالعراق: إعادة إحياء الصحوات 

وأكّد أنّ "التطورات الاجتماعية التي مرّ بها العراق تُحتّم علينا تشريع قانون العشائر من جديد، مع مراعاة التطورات الاجتماعية التي تغيرت عما كانت عليه قبل أكثر من 50 عاماً، وبما يتناسب مع العادات والتقاليد".
وشهد الشهر الحالي أبرز حدثين في العراق في هذا الإطار، بعد تقديم النائبة عن كتلة "دولة القانون" حنان الفتلاوي، شكوى عشائرية ضد زميلها من "ائتلاف المواطن" أحمد أبو كلل، بتهمة "الشتم" خلال مشادة كلامية بإحدى الحلقات التلفزيونية.

وكان أبو كلل قد وصف الفتلاوي بـ"الانبطاحية"، ما دفعها إلى التوجه إلى مضارب عشيرتها، التي هددت عشيرة أبو كلل في حال لم يحضر ممثلوها جلسة الحكم. وبالفعل احتكمت عشيرة الأخير وغُرّمت بدفع 84 ألف دولار مع اعتذار علني، تم بثّه على قناة تابعة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي تنتمي الفتلاوي لكتلته.

وفي قضية أخرى، غرّمت عشيرة في البصرة عشيرة أخرى قريبة من مناطق تواجدها، بـ"دفع خمسين امرأة باكر لها" كبدل عن جريمة قتل، وقعت بين أفراد من العشيرتين. هذا عدا عن اصدار محاكم عشائرية أخرى، لأحكام لا تقلّ بشاعة عن القضيتين السالفتين.

وفي إشارة إلى تنامي موجة الأحكام العشائرية في العراق، ذكر تقرير لمنظمة "لأجل العراق" الحقوقية، صدر أخيراً، جاء فيه أن "بغداد شهدت 800 محكمة عشائرية خلال الشهر الماضي، بمعدل 27 محكمة يومياً، بينما شهدت النجف 1200 محكمة عشائرية، بنسبة 40 محكمة يومياً، وفي البصرة بلغ عدد المحاكم 2450 محكمة عشائرية، بمعدل 82 محكمة يومياً". وأفادت المنظمة بأن "المحاكم الدستورية أو الرسمية العراقية، تنظر في الأحكام العشائرية للبتّ في شأنها".

وعادة، فإن تلك المحاكم تمنح القاتل "حق الحياة" و"شراء النفس" التي قتلها، بالنساء أو المال، كما حدث في البصرة، أو إعادة المسروقات التي سرقها الشخص من منزل أحدهم، ثم دفع ما يعادلها من مال للضحية المسروقة أو الحكم بالنفي من المدينة. وتُعدّ كل تلك الأحكام مخالفة للدستور العراقي، إلا أنها انتشرت وباتت واسعة جداً في العراق اليوم. ما دفع القاضي محسن الوكيل نائب رئيس محكمة جنايات الناصرية، جنوبي العراق، إلى التحاكم عشائرياً مع شخص ضرب ابنه وكسر يده.

ولا يُمكن اعتبار أن المحاكم القضائية الرسمية تراجعت للمرتبة الثانية على الإطلاق، فالمحاكم الشرعية الدينية التي تتوفر بكثرة في الحسينيات والمقامات الدينية، هي من تحل بالمرتبة الثانية، قبل أن تليها المحكمة الرسمية العراقية في المرتبة الثالثة. وباتت وظيفة تلك المحاكم مقتصرة على تسجيل عقود الزواج أو الطلاق، ونقل الملكية، وتلبّي حاجات شريحة معينة من العراقيين، الذين لا ينتمون لعشائر.

في هذا الصدد، يرى الخبير القانوني، مهند عبد الرزاق، أنّ "السياسات التي تنتهجها الدولة، من خلال سيطرة الأحزاب على المؤسسات، ومنها القضائية، والتعامل بالمحسوبية في كافة القضايا القانونية، دفع باتجاه تقوية العشائر على حساب سلطة الدولة".

وقال عبد الرزاق لـ"العربي الجديد" إنّ "الأحزاب السياسية سيطرت على كافة مفاصل المؤسسة العراقية، وأصبحت اليوم فوق سلطة القانون، وبحماية كبار مسؤولي الدولة، لأنّهم شركاء لهم في جرائمهم وفسادهم".
وأضاف أنّ "المواطن البسيط الذي لا يستطيع أن يلجأ للقضاء للحصول على حقه المسلوب، لم يجد سوى العشيرة التي تستطيع أن تطالب بحقه وتستعيده حسب ما تراه صحيحاً، وإن كان خارجاً عن التشريعات والقوانين. الأمر الذي فعّل تلقائياً السلطة العشائرية، والتي لا تعترف أصلاً بالقانون".

وأشار الى أنّ "هذه التوجهات الحكومية بنت مجتمعاً عشائرياً، وجعلت من سلطة العشائر تتحكّم بسلطة القانون، بحيث إنّ الديّة العشائرية (الفصل العشائري) في قضايا القتل، والتي يعقبها تنازل من قبل أصحاب الحق الشرعي من ذوي المجني عليه عن القاتل، تُسجّل بمحضر عشائري". وتابع "بعدها يتمّ تحويل نتيجة الحكم العشائري إلى القضاء، الذي يعتمدها وعلى أثرها يُطلق سراح المجرم بناءً على المحضر العشائري، ويتم تجاوز كل المواد القانونية".

بدوره، رأى الخبير الاجتماعي، عبد الفتاح العميدي، أنّ "السياسات الحكومية أفضت إلى استيلاد مجتمع عشائري بحت في العراق". وأوضح في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنّ "هذا التوجه في المجتمع العراقي نحو العشائرية، هو توجّه خطير وعلامة انحدار في المجتمع إلى هاوية مجهولة النتائج". وشدد أنّ "العشائر اليوم لها قوانين خاصة تعلو على كل القوانين والدساتير الأخرى، يكتبها ويضعها شيوخ العشائر، الذين لا يملكون أي ثقافة وأيّ توجه نحو إصلاح المجتمع".

ولفت إلى أنّ "هذا الأمر سيعود بالمجتمع العراقي إلى مجتمع البداوة لا الحضارة، مما سيعيد العراق قروناً إلى الوراء، على الرغم من التقدم والتطور الحاصل في معظم بلدان العالم الغربية، الأمر الذي سيُوجد مستقبلاً حواجز ثقافية كبيرة، بين المجتمع العراقي وبين المجتمعات المتحضّرة". وحمّل العميدي، "الحكومة الحالية والحكومات السابقة، مسؤولية كل ما يحدث من تدهور ثقافي استشرى في المجتمع العراقي".

في المقابل، لا يختلف الحال كثيراً عن مناطق شمال وغرب العراق، الخاضعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، والناس اعتادت الاحتكام إلى "ديوان القضاء". وتتميّز أحكام هذه المحاكم بالشدة والغلظة، وتبدأ بالجلد وتمرّ بالرجم ولا تنتهي إلا بقطع الرأس.

وتعتبر المحاكم العشائرية في العراق واحدة من مظاهر ما بعد الاحتلال الأميركي للبلاد، في العام 2003، فالقانون العراقي السابق، والذي حمل الرقم 34 لسنة 1981، كان ينصّ على إنزال عقوبة لا تقلّ عن 20 عاماً سجناً، لكل من احتكم خارج منظومة القضاء الرسمية في البلاد. وكانت العقوبة تطال طرفي النزاع والقاضي في المحاكمة العشائرية، وهو ما أدى إلى إضعاف النظام العشائري والديني في العراق، في مقابل تعزيز قوة القضاء الرسمي في البلاد. اختلفت الحال اليوم كلياً، في البلاد التي تفقد كل يوم جانباً من جوانب الحياة الصحيحة منذ العام 2003 حتى الآن.

اقرأ أيضاً: عام على سقوط الموصل ولا جديد