"نداء تونس" على مفترق التوحيد أو التقسيم

"نداء تونس" على مفترق التوحيد أو التقسيم

05 أكتوبر 2015
مناصرون لـ"نداء تونس" خلال احتفالات التأسيس "الثالثة" (أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -
تبذل بعض قيادات حزب "نداء تونس" جهداً كي تقلل من أهمية التصريحات النارية بين جناحين من الحزب، وتحاول أن تروّج أنّها أمر طبيعي يسبق المؤتمرات الحزبية عادة. وإذا كان هذا الأمر متوقعاً عند بعض الأحزاب، فإنه يُنذر في "نداء تونس"، الذي لم يعقد بعد مؤتمره الأول، بتطورات مفصلية، ليس على الحزب وحده، وإنما على التوازن السياسي الهشّ في البلاد.

اقرأ أيضاً: "نداء تونس"... في انتظار المؤتمر

لكن على الرغم من هذه المناكفات، فإن الحزب نجح في تعيين أمين عام جديد خلفاً لوزير الخارجية الحالي الطيب البكوش، بعدما غادر محسن مرزوق منصبه كمستشار في الرئاسة إلى هذا الموقع الحزبي. غير أن الجناح الدستوري من الحزب، والذي يقوده نجل الرئيس التونسي حافظ السبسي، لم يقبل هذا الحل المؤقت ريثما ينعقد المؤتمر.

ويعود قلق الدستوريين إلى مسألتين؛ الأولى ريبتهم من سيطرة اليساريين والنقابيين على الحزب، والثانية ترتبط بطموحات مرزوق الواضحة، والمعقولة سياسياً. ووجد الدستوريون أنفسهم خارج الحكم، بموجب هذا التعيين، إذ لم يعين في المناصب المتقدمة أحد يذكر منهم، على الرغم من أن الحبيب الصيد حاول أن يتلافى ذلك في تعيين المحافظين. وفي السياق، تؤكد مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" أن عدداً مهماً من التعيينات كان بإيعاز من بعض الدستوريين البارزين، غير أن هذا الأمر لم يغير كثيراً في المزاج العام للجناح الدستوري، الذي يعتبر نفسه الرافد الأهم في الحزب وسبب نجاحه الرئيسي في الانتخابات التشريعية والرئاسية، وبالتالي لا يمكنه السكوت عما يجري والاكتفاء بمجرد المتابعة لما يحدث في البلاد والحزب. ولم يتوقف رفض الدستوريين عند حدّ الامتعاض، إذ هدّدوا بالطلاق السياسي أكثر من مرّة، وخصوصاً أنّ أبرز قياديي هذا الجناح لم يكونوا ضمن المكتب السياسي للحزب، ولم ينضم إليه نجل السبسي، إلا بعد سلسلة من الاحتجاجات الكبيرة.

ويعتقد الجناح الدستوري أن المؤتمر المقبل للحزب سيكون حاسماً في مصيرهم ومصير "نداء تونس"، والبلاد بشكل عام، ولا يمكن أن يترك لغيرهم تقرير المصير ووضع السياسات واقتراح القادة وتسيير الحكومة. ويبدو أنهم ذاهبون في هذا الاتجاه بكل الإمكانات المتاحة أمامهم، ولو أدى الأمر إلى خيارات جذرية أخرى كتأسيس حزب جديد، بحسب ما يتوقع مراقبون.

لكن طرفاً محسوباً على الرافد النقابي في الحزب يقول لـ"العربي الجديد" إن "الذين يتوقعون انهيار الحزب بعد خروجهم منه واهمون، وإن نداء تونس عرف أزمات كثيرة مماثلة لكنه بقي كما هو، لأنه يعبر عن حاجة داخل المجتمع". ويعتبر المصدر خلال لقاء مع "العربي الجديد" أنّ "الطموحات الشخصية الجارفة هي سبب المشاكل".

هذا الصراع المكتوم الذي يطفو إلى السطح عند الأحداث الكبيرة، بدأ يعود أخيراً بكل ضراوة، وخصوصاً عندما تحددت مواعيد المؤتمر في نهاية هذا العام. مع العلم أن مصادر من داخل "النداء" تؤكد لـ"العربي الجديد" أن المؤتمر قد يتأجل إلى بدايات العام المقبل.

وشهدت اجتماعات للحزب في الجهات (الولايات)، أخيراً، أعمال عنف نجمت عنها اتهامات متبادلة بالسعي إلى تعكيرها وإدخال بلبلة على الحزب. وكان اجتماع تونس وباجة، الذي أشرف عليه مرزوق مسرحاً لتدخل جملة من الشباب بغاية التشويش عليه، ما دفع قيادياً بارزاً من الشق النقابي داخل الحزب، وهو عبد المجيد الصحراوي، عضو المكتب السياسي، إلى اتهام حافظ قائد السبسي بـ"تكوين مليشيات وممارسة العنف داخل الحزب". وقال الصحراوي في تصريح صحافي، إنّ حافظ قائد السبسي قام بتأجير مجموعة من المنحرفين بغرض إفشال الاجتماع الجماهيري، معبراً عن استيائه ممّا سمّاه ممارسات العنف، ومحاولة بثّ الفتنة وتقسيم الحزب.

من جهته، أكد المدير التنفيذي لحركة "نداء تونس"، بوجمعة الرميلي، المحسوب على الشق اليساري، في تصريح لوكالة "تونس إفريقيا" للأنباء، أنه مع اقتراب تنظيم المؤتمر "أضحت مختلف تحركات القيادات شبه انتخابية"، معتبراً أن "ما يجري بين الأمين العام للحزب محسن مرزوق والقيادي حافظ قائد السبسي يدخل في باب التنافس الانتخابي". وحذّر الرميلي من "الانزلاق نحو الانقسام بسبب هذا التنافس"، مشيراً إلى نتائج سلبية قد تفضي إلى شق الحزب" جراء هذا الانزلاق. وأضاف أن "هياكل الحزب من مكتب سياسي ومكتب تنفيذي ومجلس وطني تقوم قريباً بتنظيم اجتماعات بهدف تطويق الخلافات"، مقلّلاً من أهمية ما يروج حول الخلافات الداخلية في الحزب بين يساريين ودستوريين، معتبراً أن هذا أمر مفتعل "فقد خضنا معارك معاً، وأصبحت هناك لحمة ثقافية ندائية جديدة"، على حد قوله.


غير أن هذه اللحمة تبدو أحياناً بعيدة عن الواقع، فقد تقدم أكثر من ثلاثين نائباً عن "النداء" منذ أيام بعريضة لسحب الثقة من وزير التعليم العالي، شهاب بودن، من دون استشارة الحزب، في حين عارضها آخرون، ما عكس حالة من الفوضى التنظيمية والسياسية. كما رفضت قواعد الحزب في القيروان، قبل أيام، اجتماعاً يشرف عليه حافظ قائد السبسي، معتبرةً إياه عملاً موازياً للنشاط الرسمي للحزب. وهو ما يدعم موقف مرزوق الذي تحول إلى ولاية جندوبة وأعلن عن قراره بالترشح للانتخابات البلدية نهاية العام المقبل.

تقارب بين "النهضة" والدستوريين

في غضون ذلك، فجّر تكوين منتدى العائلة الدستورية ومن بعده تصريح زعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، بأن جدّ الإسلاميين والدستوريين واحد وهو الشيخ عبد العزيز الثعالبي، نقاشاً وتلاسناً فكرياً وسياسياً.

وكتب محسن مرزوق على صفحته أن "الأب المؤسس للدولة الوطنية العصرية التونسية بعد تحريرها من الاستعمار، الذي أطلق حقوق المرأة وحقوق التعليم وجعل من الرقي هدفاً للأمة التونسية، هو الحبيب بورقيبة. ومن كانوا معه ساعدوه وكان زعيماً لهم. ومن كانوا قبله مهدوا قليلاً ولم يؤسسوا، ولذلك فهو هو الأب وهو المؤسس. نقطة وارجع للسطر. اتركوا الثعالبي سالماً في قبره فلا مقارنة تاريخية بين الرجلين".

اقرأ أيضاً: خصومة حزبية في تونس: الثعالبي أم بورقيبة؟

ولا تخفي قيادات نهضوية أنها تميل إلى حافظ قائد السبسي بل وصل الأمر بحركة "النهضة" إلى حد مشاركته جماهيرياً في تظاهرة كان قد دعا إليها ضدّ الإرهاب وكانت ناجحة جماهيرياً في شارع الحبيب بورقيبة. كما بارك الغنوشي مبادرة الدستوري الأبرز في "النداء"، رؤوف الخماسي، بإطلاق "منتدى العائلة الدستورية" في شهر سبتمبر/أيلول الماضي.

وللتقليل من هذا التقارب الواضح بين "النهضة" والدستوريين، تغيرت تصريحات قياديين بارزين من الشق اليساري لـ"النداء" في ما يتعلق بـ"النهضة"، بحيث باتت تشير صراحة إلى التعايش المشترك وإلى الحكم التشاركي، لأنه لا يمكن قيادة البلاد من دونها، ومن بينهم مرزوق الذي شهد الحزب معه حراكا كبيرا خصوصاً في الأيام الأخيرة، فهو يتنقل من مدينة إلى أخرى، ومن لقاء سياسي إلى آخر. وبدأت أسهمه في الارتفاع حتى في عمليات سبر الآراء، وهو السبب نفسه الذي بدأ يثير الجناح الدستوري، فمرزوق سياسي بارع وصاحب طموح واضح، وخرج من القصر الرئاسي بحثاً عن مستقبل سياسي يرى أنه في متناوله وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشير إلى إمكانية تغييرات حكومية.

غير أن ما يقلق الدستوريين في الوقت نفسه يتعلق بمسألتين بارزتين، أولاهما أن اليساريين والنقابيين والمستقلين أعطوا للحزب شرعية جديدة، أبعدت عنهم شبهة التجمع المنحل خصوصاً في بداية تشكّله، وقدّمتهم كحزب جديد بديل عن الترويكا. وهو أمر مهم للغاية، لأن التونسيين لم يصوتوا لكل مشتقات التجمع في الانتخابات الماضية، وعلى الرغم من أنّ حدّة هذا الموضوع أصبحت أقل في الوقت الراهن، فإنها تبقى قائمة في كل الأحوال، ويمكن المراهنة عليها من منافسيهم.

أما الأمر الثاني، فيتعلق بمن يقود الدستوريين في المرحلة المقبلة؛ فحافظ السبسي يشكل حالة فريدة في الساحة السياسية التونسية، وهو شخصية مخفية لا تكاد تظهر في وسائل الإعلام إلا نادراً، وبرغم ذلك فإنه يبقى مؤثراً كبيراً في الواقع السياسي التونسي. ويبقى التساؤل كبيراً حول طموحاته الحقيقية ورغبته وقدرته في آن واحد على قيادة حزب أغلبي يحكم البلاد في أدق مراحلها.