هل يؤثر تقرير "أمنستي" على نضال الـ48؟

هل يؤثر تقرير "أمنستي" على نضال الـ48؟

27 فبراير 2022
فلسطينيو الداخل بحاجة إلى مسار بديل وجامع (يوسف مسعود/Getty)
+ الخط -

هناك ملاحظتان، الأولى: لم يعتد الداخل أن يساءل حول نضاله، وهو قد استعمل وبشكل ديماغوغي ذريعة "الخصوصية" لكي يتنصّل من مساءلة فلسطينية وطنيّة ضرورية، بالتالي كانت تعريفات الوطنيّة في الداخل الفلسطيني تقع دائما خارج المرجعية الوطنية (المتخيلة) وحتّى خارج النقاش السّياسي غير الرسمي، الأمر الذي جعل الدّاخل في كثير من المواقع والمحطّات الاستراتيجية يتصرّف "بحريّة" لا تحكمها ضوابط وطنيّة. عنوان المقال الذي حدده تحرير ملحق "العربي الجديد" ما يشبه إعادة النظر في ذلك، وهي إعادة نظر ضروريّة تجعلنا لا نكتفي بخطاب "البقاء والصمود"، وبـ"جذور ضاربة في الأرض"، لأنّ خطاب البقاء والجذور هذا قد يغطّي على دور خطير، فقد فائدة الجذور الضاربة في الأرض إذا كانت الثمار مختفية فيها أيضا؟

الملاحظة الثانية: لماذا يتم طرح سؤال دور الـ48 الآن؟ لقد صدر تقرير من قبل الأمم المتحدة (الأوسكوا) عام 2017 والذي اتهم هو أيضا إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري على جانبي الخط الأخضر، بل وصدر التقرير في نقطة تزامن بينه وبين وجود القائمة العربية الواحدة في الكنيست (المشتركة) وبين سن قانون القومية، أي نقطة استراتيجية أكثر بكثير من الآن، لكن أحدا لم يسأل الـ48 ما هو فاعل أمام قانون القومية الذي يضع الفلسطيني أينما كان بما فيه الـ48 كوجود لا سياسي، أي كعدم، وأحدا لم يسأله عما إذا كان سيتسلح بتقرير الأمم المتحدة.

انهارت الحركة الوطنية الفلسطينية بشكلها الذي نعرفه حتى الآن وباتت هناك أسئلة ضرورية تستأنف على عملية سطو مفاهيم وتصورات سياسية مبنية على "موازين القوة" و"الواقعية السياسية" و"التعايش مع الصهيونية" والاحتكام "لجغرافيات سياسية"

الأسئلة الصحيحة: التقاء الانهيار والأمل    

يسأل السؤال الآن لأن اللحظة التاريخية لصدور تقرير "أمنستي" صادفت اعترافا وشعورا عميقا للفلسطينيين –غير المتعاونين - بانهيار مسلمات وفرضيات عملهم السياسي في كل مكان. لقد انهارت الحركة الوطنية الفلسطينية بشكلها الذي نعرفه حتى الآن، وباتت الأسئلة التي لم تطرح من قبل ضرورية، بالذات تلك الأسئلة التي تستأنف على عملية سطو مفاهيم وتصورات سياسية مبنية على "موازين القوة" و"الواقعية السياسية" و"التعايش مع الصهيونية" والاحتكام "لجغرافيات سياسية"، وكل ما يقع تحت خانة أو يبرر عدم محاربة المشروع الصهيوني بوحدة شعب ووطن ومصير سياسي، وأقول سطو وليس هيمنة، لأن سطوتها بنيت وعلى جانبي الخط الأخضر ومن قبل قياداته بواسطة تخويف وترهيب الشارع الفلسطيني من عواقب الغضب والتمرد والرؤى غير الواقعية، وليس بواسطة تطوير قناعات والتعبير عن خيارات الشارع الحقيقية. لقد حصلت هذه السطوة السياسية في الجانب الشرقي من الخط الأخضر بذراع قوى الأمن الفلسطيني، وفي الجانب الغربي منه بوعيد سياسي من تبعات "استفزاز الشارع الإسرائيلي" وتحريض "اليسار" الصهيوني . القرار السياسي الفلسطيني المستقل من التبعية ومن الخوف كان ضحية تلك السطوة.

بهذا المعنى مثل "السطر الأخير" (الصورة في الداخل الفلسطيني الـ48 مركبة أكثر، لكن هذا سطرها الأخير منذ سنوات) للسياسة الفلسطينية الرسمية على جانبي الخط الأخضر سقف الغضب الإسرائيلي أكثر بكثير مما مثل أماني وأحلام شعبه. أما إسرائيل فلم يرضها حتى هذا الارتهان، فقدمت صراحة عبر "قانون القومية" ومن ثم صيغته السياسية "صفقة القرن" معادلاتها للحل: مسافة الصفر ما بين التسوية والتصفية.

مسافة الصفر هذه تعني للفلسطينيين إما الارتهان الكامل أو النضال الكامل. لا وسط. هذه هي الأزمة فلسطينيا باختصار، انعدام الوسط. وهي أزمة لعقلية احترفت المساومات ثم المساومات على المساومات ثم انتظار جولة المساومات القادمة، كما احترفت التوصية على غانتس ثم الإصرار عليها حتى حين رفضها ثم، الدخول إلى الحكومة الإسرائيلية.

لكن ما يطرح سؤال ما العمل، هو ليس الانهيار وحده، بل هو نقيضه: الأمل. ما يدفع الفلسطيني الآن لطرح أسئلته ولو عبر منابر تعمل بشكل جزر منفردة لا جامع سياسي لها ولا مرجعية واحدة، ما يدفع الفلسطيني للخيال والحلم ويبعث فيه الروح وممارسة ما تبقى من شعور ضروري بإنسانيته، ما يدفعه للتمرد على ذاته: على أطر آمن بها وطرق سارها وقناعات ارتكن لها هو الأمل وليس اليأس. ازدواجية اليأس والأمل لدى الفلسطينيين الآن، هي ما يحدث هذا الارتباك على الساحة الفلسطينية، فوضى الحواس وفوضى السياسة والانتقال من تمردات الشارع ووقوف الشيوخ أمام المستوطنين ووقوف الشباب الغاضب في وجه الشرطة والجرافات ووقوفهم الباسم في وجه التيكتوكات، إلى تسليم سلطة عباس-رام الله فلسطينيين لإسرائيل لتقتلهم أو لتقتلهم بنفسها، وتعاطف عباس الثاني مع مستوطنين قتلة، هذا الجنون بذاته يحتاج إلى شعب بطل للتعاطي معه.

الصمود في الشارع وفي الخيال

إن فجوات التمرد في الشارع، وحراكات شبابية وثقافية قاطعة للجغرافيات الفلسطينية ومظاهرات تخرج دون انتظار أو توقع ومن فئات غير متوقعة ولا تحسب عادة ضمن القوة السياسية، والتغذية والإسناد من خطاب أكاديمي يتعاطى مع إسرائيل كاستيطان استعماري ويعمم هذا الوعي من تقارير عالمية تصفها بالاستعمار وأخرى عالمية وإسرائيلية تصفها بالأبارتهايد هي ما يطرح منطق التعاطي مع مسار بديل مناقض جذريا لما كان. هذا البديل لم يحدد ولم يبلور لا فكريا ولا سياسيا ولا تنظيميا، ولم يطرح نفسه أصلا كبديل جامع، ليس بعد. هنالك شروط قد تساعده في ذلك لكن ما هو قائم لا يكفي، وهو لن يفعل ذلك بقواه الذاتية الحالية فقط، وتدحرج قوته ليس حتميا، ولا حتمية للانتصارات، لكن كبر التضحيات والمعاناة الفلسطينية يجعل عدم الأخذ بجدية القوة الكامنة خلف تلك التضحيات والمحاولات والإصرار أمرا غير أخلاقي.

الأزمة فلسطينيا هي انعدام الوسط وهي أزمة لعقلية احترفت المساومات ثم المساومات على المساومات ثم انتظار جولة المساومات القادمة كما احترفت التوصية على غانتس ثم الإصرار عليها حتى حين رفضها ثم الدخول إلى الحكومة الإسرائيلية

الداخل الفلسطيني هو جزء من هذا المشهد الفلسطيني العام، لكنه لن يستطيع من الآن فصاعدا أن يرسم مسارات تطوره بنفسه وبأدواته هو فقط كما كان الوضع حتى الآن. لقد تحولت فرضيات "الخصوصية" إلى جزء رئيسي من الأزمة بعد أن كانت لفترة طويلة جزءا من "الاضطرار" الموهوم أو حتى "القناعة" المدمرة. وقد ساهم منطق "دعه يعمل" في اعتبار "الوطنية" سوقا حرا للاجتهاد السياسي لدرجة أنه تم تسويغ دخول تيار حزبي فلسطيني للحكومة الإسرائيلية بمقتضيات "وطنية". سقوط الخصوصيات لا يشمل المصير فقط، بل يشمل أيضا مسارات وأدوات التأثير السياسي، لقد بات تفاعل الداخل على أنماط فعل ونضالات فلسطينية مشتركة من ضرورات المرحلة.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

أما عوامل إعادة النظر الجذرية فلن تأتي من الأحزاب كما لن تجرؤ المتابعة التي يعول عليها "الخارج" الفلسطيني أكثر، على فتح أسئلة كبرى لا تستطيعها الأحزاب على شاكلة: تطوير تصورات سياسية واضحة تعلن الحد بين المشروع وغير المشروع سياسيا وتنطلق من مرجعية وطنية فلسطينية متخيلة، مرجعية نستطيع تخيل مفاهيمها حتى بغياب إطار تنظيمي يجسدها، وتأسيس ذلك كرادع سياسي أخلاقي يجعل الدخول في الحكومة الإسرائيلية مثلا خروجا عن الشرعية السياسية وعن كافة التنظيمات واللجان والهيئات السياسية الجامعة، أو على شاكلة إعادة بناء حركة وطنية فلسطينية جامعة في الداخل مكونة من أحزاب وحراكات شعبية وشبابية وثقافية متحررة من قيود تمثيل الكنيست وتعرف نفسها كجزء من الحركة الوطنية الفلسطينية وتطرح الإجابة على تحدي معادلة مسافة الصفر بين التسوية والتصفية التي طرحتها إسرائيل ممثلة بقانون القومية وصفقة القرن، أو قضية تمثيل الفلسطينيين في المسار الفكري على الأقل الذي يدعو إلى إعادة بناء م ت ف وطرح فلسطينيي الـ48 كطرف في النقاش كونهم جزءا من الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن التصورات النهائية لكيفية تمثيلنا أو دورنا أو علاقتنا مع (م ت ف) التي ندعو إلى إعادة بنائها. لن يكون التغيير من داخل هذه الأطر، بل سيتطور خارجها ورغما عنها وعن منطقها، ربما تستطيع أن تلحق به وربما لن تستطيع.

هنالك حاجة لتحليل الصمت الأكاديمي في مواقف سياسية حرجة أبرزها تمرير قانون القومية وهو جزء من عقلية المرحلة التي أدت إلى انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية كما عرفناها بعد أوسلو

الأكاديميون أين دورهم..عندما لا يبقي الود للسياسة مطرحاً

"عودة الوعي" لدينا في الـ48، وإعادة رسم طريق التحرر من الصهيونية الاستعمارية كمنطق وهدف للنضال الفلسطيني تفتقد لإحدى وكلائها "الطبيعيين"، هم في الحقيقة وبحكم التحليل النظري والتجربة، ليسوا وكيلا طبيعيا لذلك، لكن لنقل إنهم مرشحون منطقيون كوننا على الأقل نتحدث عن "الوعي"، وعن فكر التحرر والعدالة ـ كلمات كبيرة، آسفة لذلك، أقصد المثقفات والأكاديميون. بعض هؤلاء المرشحات والمرشحين ممن لم يختاروا الصمت، تبنوا تنظيرات أكاديمية اختارت نقد تجربة الأحزاب السياسية في الداخل من منظور تحرري (تحرر من المشروع الصهيوني/ الدولة اليهودية)، وانتقدوا المشتركة كاستراتيجية سياسية وليس كمجرد "أخطاء" في الأداء، لكن صوت هؤلاء كان حاضرا في مقالات وحوارات صحافية غير منتشرة، فغاب عن التأثير أو على الأقل الحضور السياسي. هنالك حاجة لتحليل الصوت الأكاديمي الذي برز في مؤتمرات مراكز الأبحاث الفلسطينية وفي عشرات الندوات والمحاضرات التي أقيمت في السنوات الثلاث الأخيرة ـ منذ الكورونا -، وهنالك حاجة لتحليل الصوت الأكاديمي الذي احتضن مفاهيم الواقعية السياسية وبرر الأداء السياسي الفلسطيني بقوة العنف الإسرائيلي ـ التي لا يستطيع أحد الوقوف ضدها! - والذي برر بشكل ما هذا الأداء السياسي الذي أدى لهذه المرحلة وذلك في أحرج أوقات حاجة شعبنا والأحزاب نفسها إلى نقد استراتيجي. هنالك حاجة لتحليل الصوت الأكاديمي الذي لا يربط بين السبب والنتيجة، ويحاول تخفيف تأثير الأداء السياسي الفلسطيني على الوضع الذي وصل إليه الفلسطينيون، كما يحاول محو التمايزات بين الأحزاب السياسية في الداخل أو تشويهها. هنالك أيضا حاجة لتحليل الصمت الأكاديمي في مواقف سياسية حرجة، أبرزها تمرير قانون القومية. ذلك برأي هذا المقال جزء من عقلية المرحلة التي أدت إلى انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية كما عرفناها بعد أوسلو.

نخلص من كل ذلك إلى أن أحد أهم الإسنادات التي تحتاجها المرحلة الحالية هو حاجة مجتمعنا إلى إنتاج خطاب فكري أكاديمي مساند لمنظور التحرر وحاجته إلى عدم الاستمرار في التسامح مع تنظيرات أكاديمية في المجال السياسي تعيق تطوير مسار فلسطيني بديل وجامع، ومن الواضح أن مثقفي وأكاديميي الداخل لن يستطيعوا وحدهم تحمل هذا العبء.

هنالك حاجة لتطوير منبر لحوار فكري وطني يضم مثقفين وأكاديميين فلسطينيين من كافة أماكن الوجود الفلسطيني لنقاش دور الـ48 كجزء من نقاش فلسطيني وطني عام، وهنالك حاجة لنقاش دور مراكز الأبحاث الفلسطينية في هذه المرحلة من إعادة بناء الوعي التحرري الفلسطيني وترميم الثقة بالذات وبكامل الحق وكامل العدالة.

هذا المسار التحرري البديل الصعب والشاق، هو غير مضمون طبعا، كما أنه ليس النتيجة الوحيدة لما يجري حاليا، لكنه الممكن الوحيد إذا لم يشأ الشعب الفلسطيني أن يعلن عن "نهاية التاريخ" من جهته. أحيانا الخيارات الراديكالية هي أكثرها واقعية.