شهد الواقع العربيّ والفلسطينيّ نكستين خلال عقود الصراع مع الاحتلال الإسرائيليّ، ما زالتا تلقيان بآثارهما على المستويَين الذهني والسياسي. ونُثنّي واقعة النّكسة هنا، لأنّها لا تقتصر على ما حصل عام 1967 فحسب؛ حين قضم الاحتلال ما تبقى من أراضٍ فلسطينيّةٍ في القدس والضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة وأراضٍ عربيةٍ في سوريّة ومصر، بل لاحق الاحتلال الفلسطينيّين إلى شتاتهم القريب، فسطّر بحقهم نكسةً ثانيةً تتشابه مع الأولى من حيث التّاريخ، وذات نتائج أعمق، ففي السادس من يونيو/حزيران 1982، حلّت واحدةٌ أخرى في مخيمات لبنان.
لعل محاولات تجاوز منظّمة التّحرير الفلسطينيّة آثار "نكسة" 1967، رغم تعثّر "أيلول الأسود" في الأردن 1970، استدعت من الاحتلال ممارسة ما يجيده وينجح فيه، فالفلسطينيّون أعادوا تشكيل فاعليّتهم عقب دخول المنظّمة لبنان، فالشتات الفلسطينيّ هناك خلق حالةً اعتباريّةً على المستوى الفلسطينيّ والعربيّ والدّوليّ، كان لا بدّ من معالجتها إسرائيليّاً، فهناك كتلةٌ كبيرةٌ من اللاجئين الفلسطينيّين، يعون أنفسهم وقضيّتهم ودورهم وتماسكهم ومشروعهم التّحرريّ.
فمنذ اليوم الأوّل لبدء عدوان يونيو/حزيران 1982، تكشفت خطط الاحتلال ونياته، فمن "رد الخطر" والهدف المعلن بإبعاد المنظّمة، عن حدود فلسطين الشّماليّة المحتلّة لمسافة 40 كلم، إلى اجتياح كامل لبنان، تبيّن أنّه مبيّتٌ ومخططٌ لضرب حالة المخيّمات الفلسطينيّة.
بعد عقودٍ على الصراع العربيّ الإسرائيليّ، شهد فيه العرب فعليًّا هزائم مدوّيةٍ، تميل الحالة الفلسطينيّة الرسميّة إلى الركون لـ "ذهنية النّكسة"
لم يصمد هذا الشتات؛ المسلّح بالجسم السياسيّ والعسكريّ الفلسطينيّ، الذي لطالما بدا متماسكاً نسبياً على مستوى الخطاب السياسيّ والرؤية والأهداف؛ حينذاك على الأقل، أمام الاجتياح، رغم ما سطّره من جولاتٍ كفاحيةٍ، ليخرج الفدائيون من بيروت في أغسطس/آب، بعد مجازر عدّة ضدّ الفلسطينيّين، أشهرها صبرا وشاتيلا.
لطالما استطاع الاحتلال التعامل مع حالاتٍ فلسطينيّةٍ وعربيّةٍ، مثلت أمامه قوّةً نديّةً مقابلةً، ولكنها لم تكن موازيةً من ناحية تماسك مشروعها وقوّة أدائه، فتداعت قوى 3 دول عربيّةٌ (مصر، سوريّة، والأردن) في النّكسة الأولى، وعلى ذات المنوال؛ هُزمت أو "انتكست" منظّمة التّحرير عام 1982.
لم تَعبر "الذهنية الرسميّة" الفلسطينيّة والعربيّة، من محددات عملٍ، لطالما حكمتها ورسمت سلوكياتها الكفاحيّة، رغم تاريخٍ قوامه نكستان قاصمتان. وما نتج عن النّكسة الأولى على مستوى الخطاب، لم تتجاوزه النّكسة الثّانية، بل ربّما تكرّس على مستوى المفاهيم الذهنية، الّتي يمكن الاصطلاح عليها بـ "ذهنية النّكسة"، التي لم تتعمق في أسباب الهزيمتين فعلاً وتحليلاً ونقداً، بل اجترحت من الهزيمة خطاباً تبريرياً، بدأ منذ تسمية هزيمة 67 بـ "النّكسة"، إلى ابتكار ما يسّمى بـ "الممانعة"، الّتي حوّلت المقاومة من فعلٍ نضاليٍّ، إلى "ممانعة"، وهي نهجٌ يحمي منظوماتٍ سلطويّةٍ، فاقدةً شرعيّتها الشّعبيّة، لها أراضٍ محتلة، وتتعرض لاعتداءاتٍ، لكنها دائماً ما تحقّق "انتصاراتٍ" لا تدل فعلياً سوى على الهزيمة؛ "دمّر العدوان بضع قواعد، لكننا صمدنا وانتصرنا"!! وأحياناً يصبح توقف العدوان بحد ذاته "انتصاراً"، دون تحقيق نتائج على مستوى تحرير الأرض وانتزاع المكتسبات.
فلسطينياً، تتمظهر "ذهنية النّكسة" بنمطين إن صح التعبير، الأوّل اتخذ شكل "الممانعة" خطاباً وممارسةً، ونراه مرتبطاً بالمنظومة الرسميّة العربيّة، والمحور الّذي يحمل ذات التّوصيف، وهو من بقايا نكسة "حزيران 67"، ومن تركتها المُباشرة.
أمّا الثّاني، فقد دفعته "نكسة 82" إلى مسار التّسويات، الّذي نتج عنه اتّفاق أوسلو، حين لم تر القيادة الفلسطينيّة أسلوباً آخر، سوى "انتزاع" مساحةٍ للحفاظ على الجسم السلطويّ، المتمثّل بمنظّمة التّحرير، والّذي صار الحفاظ عليه وانتزاع مساحة أرض له، وكأنّه هو الهدف والغاية والانتصار، وهو ما نراه جلياً في الخطاب التبريري لنهج "أوسلو"، بأنّه حافظ على "الجسم الفلسطينيّ على الأقل"، في حين يقضم الاستيطان معظم مساحة الضّفّة الغربيّة، تحت انظار هذا "الجسم الفلسطينيّ" المُحافظ عليه، دون إعادة هيكلته وإنتاجه، بل حُوصر ضمن أراضٍ محتلّةٍ.
بعد عقودٍ على الصراع العربيّ الإسرائيليّ، شهد فيه العرب فعليًّا هزائم مدوّيةٍ، تميل الحالة الفلسطينيّة الرسميّة إلى الركون لـ "ذهنية النّكسة" بنمطيها، فنكستان كبيرتان، لم تهزّا العقل الفلسطينيّ السياسيّ بعد، الغارق بين الحنين لأجسامٍ "انتكست" في أصولها وترهّلت، واختُبر انعدام فاعلية أساليبها، إذ يصر منتمو هذا الفرع على إعادة إنتاجها، أو الانغماس أكثر في مسار "الحفاظ على الجسم الفلسطينيّ" عبر نهج "أوسلو"، فيما تحاول أجيالٌ فلسطينيّةٌ شابةٌ خلق مساراتٍ وحيوياتٍ نضاليةٍ وكفاحيةٍ، وتبحث عمّن ينتشلها من إطار التجارب، ليؤطرها بمسارٍ جديدٍ، يقطع مع النكسويين وذهنيتهم بنمطيها.