ريشي سوناك وورطة بروتوكول أيرلندا الشمالية

ريشي سوناك وورطة بروتوكول أيرلندا الشمالية

21 فبراير 2023
التوصل إلى صفقة مرضية للجميع سيكون مجرّد حلم بالنسبة لسوناك (دان كيتوود/Getty)
+ الخط -

كيف يمكن لرئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، النجاة بالملفات الخارجية فقط؟ بات هذا السؤال حاضراً كل لحظة في يوميات البريطانيين الغارقين في محنة يبدو أنها مستقرة وغير قابلة للتزحزح أو التبدّد في وقت قريب. إذ إن سوناك، الشاب الطموح والاقتصادي المنحدر من الطبقة الوسطى وأول رئيس حكومة من أصول مهاجرة، لا يكاد يتألّق في المؤتمرات الدولية خارج حدود المملكة المتحدة، حتى يخبو ألقه داخل الحدود في مجلس العموم وفي مجلس الوزراء وفي صفوف "حزب المحافظين".

هناك، يتداول مع أهم زعماء العالم في ملفات صعبة وحاسمة، وهنا يغرق في تفاصيل الصراعات الداخلية لحزب مهشّم وإقصائي وعنصري. هناك، يظهر كزعيم سياسي ومحاور محنّك ومفاوض مخضرم، وهنا تلاحقه الانتقادات ولا يتردّد معارضوه من الحزب ومن خارجه في إهانته ووصفه بالضعيف.

ومنذ وصوله إلى الزعامة، أطلق وعوداً وتعهدات لا تليق بحزب تلتصق ببعض أعضائه تهم التحرّش والتحايل على القانون والتنمّر واقتناص الفرص والارتشاء، إذ كيف للمساءلة إن تحقّقت والكفاءة المهنية إن أخذت بالاعتبار والنزاهة إن اشترطت؛ ألا تطيح بأبرز أعضاء الحزب وأبرز الوزراء في حكومة المحافظين!

ولم تكد تتحوّل الأزمة المعيشية إلى أمر واقع ومواجهة التضخّم إلى السلاح الأمثل لتخطّي هذه المحنة، حتى برزت معضلات جديدة يجب على سوناك التعاطي معها بحذر مفرط. وفي حين أن أي رئيس حكومة مطالب بإرضاء الناخبين وتلبية تطلّعاتهم؛ فإن سوناك مطالب بإرضاء الناخبين ومعارضيه وحلفائه وأعدائه وكل صفوف الحزب من يمينه إلى يساره ومن الجناح المتشدّد إلى الجناح المتطرّف إلى الوسطي، إلى الزعيم السابق بوريس جونسون و"عصابته" مروراً برئيسة الحكومة السابقة ليز تراس وجماعتها.

سوناك مطالب بالدفاع عن أفكاره التي من المفترض أنها "محافظة" بامتياز، لا بل إنها محافظة أكثر مما كانت عليه أفكار تراس مثلاً المعروفة بتقلّبات قصوى في المبادئ والمعتقدات، هي التي دعت إلى إسقاط الملكية ثم أغرقت في مديح التاج، والتي صوّتت ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ثم دافعت عنه دفاعاً مستميتاً. سوناك المحافظ أصلاً، الممتنع عن أكل اللحوم وشرب الخمور وارتداء الملابس الممزقة والمهلهلة، الذي كتب في مجلة الحائط عندما كان طالباً مدرسياً عن بريطانيا العظمى وعن ضرورة استعادة الاستقلالية والسيطرة على الحدود وردع قوافل "الغزاة" من طالبي اللجوء كما وصفتهم وزيرة الداخلية في حكومته سويلا برافرمان.

كل هذه الأفكار التي يتبنّاها سوناك قولاً وفعلاً، تبدو اليوم أقل من المستوى المطلوب في حزب يتسابق أعضاؤه على اختراع درجات جديدة من التشدّد واليمينية والعنصرية والتطرّف والإقصاء.

كيف سيتعامل سوناك مع ورطة بروتوكول أيرلندا الشمالية؟ وهل سيفوز رهانه على الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يستمرّ في تجميده لترتيبات تقاسم السلطة بسبب معارضته للبروتوكول؟ يصعب في هذه المرحلة، تصديق آمال الدبلوماسيين الأوروبيين في بروكسيل وفي لندن المتفائلين بالتوصل إلى اتفاق هذا الأسبوع. فمتشدّدو "حزب المحافظين" لا يلتفتون إلى الرغبات ولا تعنيهم الرمزية التي يمكن لاتفاق من هذا النوع أن يمثّلها قبل الذكرى الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا ووسط حاجة غير مسبوقة لتوحيد صفوف الاتحاد الأوروبي في وجه "الهمجية" الروسية.

"داونينغ ستريت" أبدى أيضاً واقعية أكبر من بروكسل عندما أعلن ناطق باسمه أن هناك "حاجة لمزيد من التفاوض للتوصل إلى صفقة ترضي أنصار "بريكست" ومجلس الوزراء والعموم واللوردات وأيضاً الحزب الاتحادي الديمقراطي الرافض للتنازل حتى هذه اللحظة عن "حقه" في "تمزيق أجزاء مهمة من البروتوكول"، من جانب واحد فيما يحيّد أيضاً ويقصي محكمة العدل الأوروبية.

وفي حين يعتقد سوناك أو هذا ما يعلن عنه على الأقل، أن من شأن التوصل إلى صفقة مع بروكسل أن تساهم في طي نزاع مستمرّ والعودة إلى تقاسم السلطة؛ يرى الحزب الاتحادي الديمقراطي مدعوماً بالزعيم السابق جونسون ومتشدّدي الحزب أن من شأن صفقة مماثلة أن تضعف موقف المملكة المتحدة وأن تطلق يد المحكمة الأوروبية.

وكما خيّمت في الآونة الأخيرة فترة السبعينيات عبر "شتاء السخط" والتسعينيات عبر "الفضائح"؛ فإن الاستقالات التي أعقبت الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عادت لتخيّم اليوم مع فارق كبير يتعلّق بمحنة اقتصادية غير مسبوقة وغزو روسي على بلد أوروبي وتراكمات من الفضائح والكذب والتحايل وإضرابات تشلّ الحياة اليومية، والكثير الكثير من الملفّات العالقة التي لم تنجح حكومات المحافظين المتعاقبة في البتّ فيها.

إضافة إلى سؤال مشروع ومنطقي عما يمتلكه سوناك من ميزات لم يمتلكها قبله زعماء حزب المحافظين مثل تيريزا ماي التي استقالت بعد فشل ذريع في الحصول على دعم حزبها لخططها المتعلقة بـ"بريكست"، أو حتى كديفيد كاميرون الذي خسر الاستفتاء بعد فشله في الفوز بقضيته المتعلقة أيضاً بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فهل يملك سوناك ما يميّزه عن زملاء خسروا معاركهم فخسروا المنصب؟ اليوم، يخشى سوناك من مصير الاستقالة، لا بل ويخشى أيضاً من استقالة وزراء في حكومته وأعضاء في حزبه مع تلويح العديد من بينهم بورقة الاستقالة ما إن تخلّى عن البروتوكول ورضخ لبروكسل.

البارحة فقط، لمّحت وزيرة الداخلية سويلا برافرمان إلى احتمال استقالتها في حال تمّ إسقاط مشروع قانون بروتوكول إيرلندا الشمالية "المثير للجدل" وقالت لـ"بي بي سي" إن مشروع القانون العالق حالياً لدى مجلس اللوردات كان "إحدى أكبر الأدوات التي لدينا في حل مشكلة البحر الأيرلندي".

يُذكر أن برافرمان نفسها استقالت قبل الآن من منصبها كوزيرة "بريكست" في حكومة تيريزا ماي على خلفية تعامل الأخيرة مع هذا الملف. ويُذكر أيضاً أن وزير العدل الحالي ونائب رئيس الوزراء دومينيك راب، استقال أيضاً من حكومة ماي كوزير "بريكست" للأسباب ذاتها، إضافة إلى وزير إيرلندا الشمالية كريس هيتون هاريس. فهل سيمتنع هؤلاء الثلاثة عن الاستقالة مجدّداً إذا ما أصرّ سوناك على المضي في الصفقة متجاهلاً مشروع قانون "التمزيق"؟ وهل سيشفع لسوناك الولاء الذي أبداه تجاه برافرمان عبر تعيينها وزيرة للداخلية بعد أسبوع واحد على تنحّيها بسبب انتهاك القانون أو الولاء الذي أبداه لراب عبر استبقائه في منصبه على الرغم من موجة مزاعم التنمّر ضدّه؟ وهل يمتلك سوناك أدوات مواجهة جونسون الذي نكاد ننسى أنه تنحّى عن منصبه وأنه فقد الزعامة، حيث يطلّ أسبوعياً للتدخّل في ملفات خارج اختصاصه كقضية البروتوكول أو كالاستجابة على الغزو الروسي؟

ربما أكثر ما يخشاه سوناك هو استحالة إرضاء جميع الأطراف، فهو إما سيخسر مكانته دولياً كحليف "أساسي" لدول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة المعنية أكثر من غيرها بقضية أيرلندا الشمالية، أو سيخسر مكانته لدى حلفائه في الداخل وبالتالي منصبه كزعيم سياسي. سبق لجونسون أن تجاهل "خساراته" دولياً فيما يتعلق بقضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلا أنه كان يمتلك ما يتكئ عليه خارجياً عبر علاقته الشخصية بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والاستجابة السبّاقة للمملكة المتحدة ردّاً على الغزو الروسي والدور البارز الذي لعبته الاستخبارات البريطانية في هذا الملف، إضافة إلى دعم داخلي غير مسبوق أتاح له أن يكذب علناً و"يضلل" البرلمان ويغير القوانين بما يتيح للوزراء خرق القانون دون خطر التنحّي.

سوناك لا يملك كل تلك الأدوات لا خارجياً ولا داخلياً، ومعظم ما يمتلكه من "إنجازات" لم يحققه أثناء تواجده في المنصب الحالي، بل عندما كان وزيراً في حكومة جونسون وظلّاً "وفيّاً" له قبل أن يتمرّد. يصعب إذاً التكهّن بإجابات على كل تلك الأسئلة، لكن التوصل إلى صفقة مرضية للجميع سيكون مجرّد حلم بالنسبة لسوناك، إن كان فيما يخصّ بروتوكول إيرلندا الشمالية أو فيما يخصّ غيرها من الملفات.

المساهمون