شهدت الكويت عام 2011 حراكاً احتجاجياً كبيراً، قاده أعضاء المعارضة في مجلس الأمة (البرلمان) المنتخب عام 2009، أبرزهم النواب السابقون مسلّم البراك وفيصل المسلم وجمعان الحربش، وطالب للمرة الأولى في تاريخ البلاد بإطاحة رئيس مجلس الوزراء، الذي كان حينها الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح، على خلفية اتهامه بضلوعه في قضايا فساد مالية، تتعلق برشوة عدد من أعضاء البرلمان، في قضية عُرفت باسم "الإيداعات المليونية".
رقم قياسي للمعارضة بانتخابات الكويت
أدى استمرار هذا الحراك الاحتجاجي المُعارض، متأثراً بزخم أحداث الربيع العربي، إلى حادثة اقتحام المعارضة مبنى مجلس الأمة أواخر عام 2011، ما أسفر عن تقديم رئيس الحكومة الشيخ ناصر المحمد الصباح، استقالته إلى أمير الكويت السابق الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، والذي قبل الاستقالة، واصفاً يوم حادثة اقتحام مجلس الأمة بـ"الأربعاء الأسود". وكلّف بعدها بأيام الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح رئيساً جديداً للحكومة، ثم أعلن حلّ مجلس الأمة 2009.
دخلت المعارضة نتيجة هذا الانتصار، بعدما أطاحت أول رئيس وزراء من أبناء الأسرة الحاكمة في تاريخ الكويت، إلى الانتخابات الجديدة التي أُجريت في فبراير/شباط 2012، برصيد شعبي كبير عكسه اكتساحها نتائج الانتخابات، وحصول رموز المعارضة على المراكز الأولى في دوائرهم، وسيطرتها على تركيبة البرلمان المُنتخب بنحو 40 عضواً (من أصل 50)، في رقم قياسي غير مسبوق في تاريخ الكويت السياسي.
تمكّن المعارضة من مفاتيح اللعبة الانتخابية وفق الصوت الواحد بعد اعتراضها عليه
لكن المحكمة الدستورية في الكويت، قرّرت في يونيو/حزيران 2012، في سابقة دستورية جديدة على البلاد، إبطال مجلس 2012، بسبب أخطاء إجرائية في مرسوم حلّ مجلس 2009، ما دعا أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد، بعد سيطرة المعارضة على الأغلبية الساحقة في البرلمان، إلى إصدار "مرسوم ضرورة"، قلّص بموجبه أصوات الناخبين من أربعة أصوات إلى صوت واحد (كان النظام الانتخابي ينص على أن الناخب يمنح صوته لأربعة مرشحين، وتقلص إلى مرشح واحد وفق المرسوم الأميري 2012).
قوبلت خطوة الأمير باعتراض القوى السياسية الفاعلة في الكويت، واعتبرتها تجاوزاً على نطاق حدود صلاحياته الدستورية. وفُسّرت هذه الخطوة على أنها موجّهة نحو المعارضة من أجل تقليل عددها في البرلمان بعدما استحوذت على أغلبيته بتقنين خيارات الناخبين إلى صوت واحد.
ونتيجة ذلك، قرّرت هذه القوى مقاطعة الانتخابات احتجاجاً، ابتداءً من أول انتخابات أُجريت وفق النظام الجديد، في ديسمبر/كانون الأول 2012، التي شهدت بسبب المقاطعة أدنى نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات البرلمانية الكويتية وسجلت 39 في المائة ممن يحق لهم الانتخاب.
وشهدت انتخابات يوليو/تموز 2013، أول بوادر كسر مقاطعة الانتخابات، بعدما قضت المحكمة الدستورية بتحصين مرسوم الصوت الواحد من ناحية سلامته الدستورية، وشارك في هذه الانتخابات إثر الحكم، "التحالف الوطني" (تيار ليبرالي)، ونواب سابقون أبرزهم: مرزوق الغانم، محمد الحويلة، وعبد الله الطريجي. لكن أبرز رموز المعارضة من قادة الحراك الاحتجاجي ضد الصوت الواحد، استمروا بمقاطعة الانتخابات، وأكّدوا أن المشاركة تعني منح الشرعية للنظام الانتخابي الجديد، و"غير الدستوري" من وجهة نظرهم.
مجلس المناديب
أما انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فشهدت انقساماً واسعاً بين المعارضة. وكان المعارض القومي أحمد الخطيب، قد دعا المعارضة إلى المشاركة في هذه الانتخابات، بسبب ما اعتبره ارتهان مجلس 2013 "تحت أيدي فاسدين"، بعدما اشُتهر هذا المجلس في الأوساط السياسية والشعبية باسم "مجلس المناديب"، وولاء أعضائه التام إلى الحكومة، بسبب تنازلهم عن دورهم، وتحوّلهم إلى مناديب (مندوبين) لتخليص معاملات ناخبيهم في الجهات الحكومية، بحسب الانتقادات التي وُجّهت إليهم حينها من الشارع الكويتي.
تزعّم عرّاب العمل البرلماني منذ سبعينيات القرن الماضي أحمد السعدون، معسكر المقاطعة طوال السنوات العشر الماضية
وكانت نتيجة هذا الانقسام بين المعارضة على المشاركة في الانتخابات، استمرار مقاطعة قوى سياسية للانتخابات، إذ اعتبرت أن أسباب المقاطعة ما زالت قائمة، فيما شاركت أخرى بهدف الحدّ من اندفاع السلطة، مثل "الحركة الدستورية الإسلامية" (حدس)، وهي الجناح السياسي لـ"الإخوان المسلمين" في الكويت، و"تجمع ثوابت الأمة" (السلفي)، إلى جانب عدد من النواب المستقلين، أبرزهم وليد الطبطبائي وعادل الدمخي وشعيب المويزري. وتمكّن المشاركون من تحقيق أول اختراق للنظام الانتخابي وفق الصوت الواحد، بعد وصول نحو 20 عضواً من المحسوبين على المعارضة إلى البرلمان.
في انتخابات ديسمبر 2020، استمرت عودة المقاطعين إلى المشاركة في الانتخابات، وأعلن الجزء الأكبر من المعارضة إما ترشحهم أو دعم قرار العودة عن المقاطعة. وكانت "الحركة التقدمية الكويتية" أبرز من أعلن خوض الانتخابات، من دون أن تنجح في كسب أي مقعد في البرلمان. كما خاض أستاذ القانون عبيد الوسمي، الذي يعدّ أكثر المقاطعين تزمتاً، الانتخابات التكميلية التي جرت في مايو/أيار 2021، على مقعد زعيم المعارضة حينها في البرلمان بدر الداهوم، في الدائرة الخامسة، بعدما أبطلت المحكمة الدستورية عضوية الأخير لعدم صحة ترشحه في الانتخابات.
اختراق بعد المقاطعة... واعتصام بيت الأمة
وحققت المعارضة في انتخابات 2020 اختراقاً كبيراً في نتائجها، وحصل المعارض البرلماني المخضرم حسن جوهر، بعد تراجعه عن قرار المقاطعة، على المركز الأول في الدائرة الأولى بـ5849 صوتاً، إلى جانب الأرقام الكبيرة التي حصل عليها أعضاء المعارضة من مجلس 2016. لكن المعارضة فشلت في الجلسة الافتتاحية بإيصال مرشحها بدر الحميدي إلى رئاسة البرلمان، بديلاً عن رئيس مجلس الأمة المقرّب من الحكومة مرزوق الغانم، الذي مكّنه حصوله على أصوات أعضاء الحكومة من الظفر بالمنصب.
إلا أن المعارضة سرعان ما استفاقت من هذه الضربة، ومنحها عدد أعضائها الذي حصلت عليه في الانتخابات، من بدء تراكم خطوات التصعيد حتى خطوة "اعتصام بيت الأمة" في البرلمان، للمطالبة بـ"رحيل الرئيسين"، في إشارة إلى رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، ورئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح.
شهدت انتخابات سبتمبر/أيلول 2022، انتهاء زمن المقاطعة
وجاء ذلك بعدما أعلن 26 عضواً عدم التعاون مع رئيس الوزراء، عقب تقديم استجواب إليه من قِبل ثلاثة نواب، ما يكفي لإطاحته، واستحالة بقائه في منصبه مع استمرار المجلس نفسه. وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى استجابة أمير الكويت، الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، إلى مطالبهم، وأعلن في 22 يونيو 2022، عبر خطاب ألقاه نيابةً عنه ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات عامة، ثم كلّف في 24 يوليو، نجله الشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح، رئيساً جديداً للحكومة.
وشهدت انتخابات مجلس الأمة 2022 الأخيرة، التي أُجريت في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، انتهاء زمن المقاطعة، بعد عودة آخر التيارات المعارضة الفاعلة سياسياً إلى المشاركة، عقب مقاطعة امتدت عشر سنوات، وهي "حركة العمل الشعبي" (حشد)، التي يتزعمها المعارض السياسي البارز مسلّم البراك، والتي خاضت الانتخابات بثلاثة مرشحين. كما عاد "المنبر الديمقراطي الكويتي"، الذي شارك بممثل وحيد.
كذلك شهدت الانتخابات مشاركة عرّاب العمل البرلماني منذ سبعينيات القرن الماضي أحمد السعدون، الذي تزعّم معسكر المقاطعة طوال السنوات العشر الماضية، وحصل في هذه الانتخابات على المركز الأول في الدائرة الثالثة بـ12239 صوتاً، وهو الرقم الأكبر في تاريخ الانتخابات التشريعية منذ تطبيق نظام الصوت الواحد.
وأسفرت نتائج انتخابات مجلس 2022، عن أغلبية مريحة للمعارضة داخل البرلمان، واستحوذت على مناصب مكتب المجلس، بعد منافسة بين أعضائها فقط. وزكّت أحمد السعدون في منصب رئيس البرلمان عقب ترشحه وحيداً، وكذا عبد الكريم الكندري في منصب مراقب المجلس، كما انتخبت محمد المطير في منصب نائب الرئيس بعد منافسة مع زميله حسن جوهر، وانتخبت أسامة الشاهين في منصب أمين السر من الجولة الأولى.
وتخوض أطياف المعارضة المختلفة الانتخابات المُقبلة، المقررة اليوم الثلاثاء، بعد تمكّنها من مفاتيح اللعبة الانتخابية وفق الصوت الواحد بعد اعتراضها عليه، وتحقيقها اختراقات متواصلة في الانتخابات، تغلبت من خلاله على ما وصفته بتقنين خيارات الناخبين الإصلاحية باختيار مرشح واحد. ومن المتوقع أن تُراكم على رقمها في المجلس السابق، حيث من المتوقع أن ترتفع أعداد المعارضة في مجلس 2023 إلى عدد أشبه بما حصلت عليه في انتخابات مجلس فبراير 2012.