الحرب على غزة... أوروبا غير موحدة

الحرب على غزة... أوروبا غير موحدة

19 أكتوبر 2023
بوريل وفون ديرلاين في ستراسبورغ، أمس (فريديرك فلوران/فرانس برس)
+ الخط -

تبدو أوروبا غير موحدة تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، وباستثناء بعض المواقف ذات النبرة العالية التي صدرت في الأيام الأولى، عن باريس ولندن وبرلين، تسود حالة من التردد والتخبط والارتباك والانقسام على مستوى قيادة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في ما يتعلق بصدور موقف سياسي موحد، وتجميد المساعدات المقدمة للفلسطينيين.

للوهلة الأولى، ساد الاعتقاد بأن السقف السياسي الذي تضعه الولايات المتحدة، هو الذي ستقف تحته أغلبية الدول الأوروبية، غير أن الموقف الأميركي نفسه خضع إلى حالة من التذبذب، وعرف خلال أسبوع واحد عدة مستويات، بين طفرة الحماس في اليومين الأولين، وبين صدور تصريحات ذات طبيعة هادئة عن الرئيس جو بايدن، ووزير دفاعه لويد أوستن، تدعو إسرائيل إلى مراعاة قوانين الحرب، ومن ثم جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن في المنطقة بهدف الضغط لإدانة الفلسطينيين.

تضارب المواقف الأوروبية

وبرز في مواقف أوروبا التضارب الصريح في أعلى رأس هرم مؤسسة الاتحاد الأوروبي، بين رئيسة المفوضية الألمانية أورسولا فون ديرلاين، ومفوض الشؤون الخارجية جوزيب بوريل.

وظهرت فون ديرلاين في وضع المزايدة، حين وقفت إلى جانب الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ، وهي تدلي بتصريحات من تل أبيب، تعلن فيها أن هذا وقت التضامن مع إسرائيل، وقالت "ليس من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها فحسب، بل من واجبها أن تحمي مواطنيها وتدافع عنهم".

والواضح أن موقفها يتجاوز سقف مواقف حكومة بلادها، التي أرسلت وزيرة خارجيتها آنالينا باربوك إلى هناك أيضاً، ثم تلتها زيارة من وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا في 14 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. ودعت الوزيرة الألمانية إلى حماية السكان المدنيين، وتوفير الخدمات الأساسية لهم "لأن هذا ما يميّزنا عن الإرهابيين"، على حد قولها.


بوريل: إسرائيل كانت منصرفة إلى إقامة السلام مع العرب وتركت جانباً المشكلة الفلسطينية

على الطرف الآخر ظهر الإسباني بوريل متحفظاً، وفي حين أن رئيسة المفوضية لم تعلق على طلب إسرائيل للسكان بإخلاء قطع غزة، عبّر بوريل عن موقف أكثر صراحة من مسألة التهجير التي طلبتها إسرائيل، واعتبر أن الإنذار الذي وجهته إسرائيل إلى سكان غزة "غير واقعي على الإطلاق". وقال إن الحرب الدائرة في غزة يمكن أن تعيد خلط الأوراق الجيوسياسية.

وفي موقف شجاع رأى بوريل، أنه ثمّة جوانب في الرد الإسرائيلي تنتهك أحكام القانون الدولي، وقال "لا أفهم كيف يمكن لأحد أن يقول إن الرد لا يجب أن يحترم القانون الدولي... من واجبنا أن نكرر هذا الكلام، ونصرّ ونضغط كي لا تُقطع إمدادات المياه والخدمات الأساسية عن السكان المدنيين... قلنا ذلك في حالة أوكرانيا، ونكرره هنا".

ووضع المسؤول الأوروبي المسألة في نصابها الصحيح بقوله "إنها المرة الرابعة في حياتي التي أشهد فيها حرباً على غزة، وهذا يدلّ على أن الأسرة الدولية قد نسيت المشكلة الفلسطينية. إسرائيل كانت منصرفة إلى إقامة السلام مع العرب، وتركت جانباً المشكلة الفلسطينية، لكن السلام يجب أن يبنى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وعسى أن يكون ما حصل بمثابة نداء إلى الأسرة الدولية كي تحاول الاستجابة".

البداية كانت من بيانات الاستنكار التي أصدرتها العواصم الأوروبية مع أول الأنباء عن دخول المقاتلين الفلسطينيين إلى مستوطنات غلاف غزة، وقبل معرفة تفاصيل ما جرى، جرى وصف العملية بـ"الإرهابية"، وتمت إدانتها بأقوى العبارات من باريس، لندن، وبرلين على وجه الخصوص.

كما صدر بيان أوروبي يدين "حماس"، ويعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وصدر إعلان عن المفوضية بتجميد المساعدات المقدمة للفلسطينيين، لكن تبين أن هناك تسرعاً، لذلك سحبت المفوضية ذلك، وقالت ليس هناك مساعدات مجدولة في الوقت الراهن ليتم تجميدها، ثم عقد وزراء الخارجية اجتماعاً طارئاً عبر الفيديو في 10 أكتوبر الحالي، لكن لم يصدر عنه أي شيء، وكان ذلك بمثابة دليل على وجود مواقف متباينة.

كان الاتحاد الأوروبي، الذي يعد من أكبر الجهات الداعمة مالياً للفلسطينيين، ينوي إنفاق حوالى 1.2 مليار يورو بين عامي 2021 و2024 لتمويل مشاريع لصالح الفلسطينيين، لا سيما في مجالي التعليم والصحة. وتحدثت وسائل إعلامية أوروبية عن أن ما تم تجميده هو مبلغ يقدر بـ691 مليون يورو.


هناك تيار أوروبي واسع يعد إسرائيل جزءاً أصيلاً من الثقافة الأوروبية

وكدليل على تباين المواقف شككت أيرلندا بشرعية قرار الاتحاد الأوروبي وقف المساعدات. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأيرلندية "ما فهمناه هو أنه لا أسس قانونية لقرار أحادي من هذا النوع، اتخذه مفوض واحد"، والمقصود هنا هو المفوض الأوروبي لسياسة الجوار وتوسعة الاتحاد الأوروبي، المجري أوليفر فارهيلي، وعبر المتحدث عن عدم تأييد قرار "تعليق المساعدات". وشكك بالأسس القانونية التي ينطلق منها قرار المفوضية الأوروبية.

من جهته، أكد وزير خارجية لوكسمبورغ بالوكالة جان أسيلبورن أن حكومته لم تؤيد تعليق المساعدات. وقال في تصريح لوكالة "فرانس برس" إن "مليوني شخص يعيشون في غزة. وهم أيضاً رهائن لدى حماس. بهذه الأساليب نحن ندفع بهم إلى أيدي إرهابيين". وتابع "نحن أكبر جهة مانحة لغزة. هذه المساعدة مهمة للشبان. هذه الأموال ليست لحماس إنها لسكان غزة".

هذا وكان أكثر المواقف حدة قد صدر عن وزارة الخارجية الإسبانية، التي ذكرت في بيان أن الوزير خوسيه مانويل ألباريس اتصل بالمفوض الأوروبي للجوار وتوسعة الاتحاد الأوروبي، للاحتجاج على القرار، الذي قال إنه يجب أن يناقش في المقام الأول مع الدول الأعضاء.

وبقي الغموض يحيط بالقضية التي جاءت بقرار من المفوضية، وليس عن تشاور بين الدول الأعضاء رغم أهميتها، وكان لافتاً التصريح الذي صدر عن فارهيلي مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسع في منشور على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، قال فيه "إن حجم الإرهاب والوحشية ضد إسرائيل وشعبها يمثل نقطة تحول. لا يمكن أن يجري العمل كالمعتاد".

وفيما يخص تعليق المساعدات الذي لم يحظ بإجماع، فإن أول خطوة كانت من النمسا، التي أعلن وزير خارجيتها ألكسندر شالنبرغ ذلك بصورة رسمية، والتي تبلغ قيمتها الإجمالية نحو 19 مليون يورو (20 مليون دولار) وهي مخصصة لعدد من المشاريع.

الدولة الثانية التي علّقت المساعدات هي ألمانيا، وقالت إنها تقوم بذلك مؤقتاً، وتوقف مساعداتها التنموية للأراضي الفلسطينية، في إطار مراجعة شاملة لمساعداتها المالية.

وتبلغ قيمة المساعدات الألمانية المعلّقة 125 مليون يورو لهذا العام والعام المقبل، وتشمل المشاريع الممولة منشأة لتحلية المياه والتدريب المهني وإتاحة فرص عمل للشباب والأمن الغذائي. في حين لم تُعلّق المساعدات الإنسانية الآتية من موازنة وزارة الخارجية الألمانية، باعتبارها تستخدم لإنقاذ الأرواح، وتبلغ قيمتها لهذا العام 73 مليون يورو.

وعلى هامش المواقف الرسمية تمت عمليات تنسيق ثنائية بين القوى الأوروبية الأساسية، وكانت البداية من تعهد المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد بدء "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر الحالي، الوقوف إلى جانب إسرائيل.


شككت أيرلندا بشرعية قرار الاتحاد الأوروبي وقف المساعدات

وعقب جولة في مصنع لشركة "إيرباص"، قال شولتز إن "ألمانيا وفرنسا تقفان بحزم مع الجانب الإسرائيلي". مضيفاً أن "الإرهاب لن يفوز، الكراهية لن تنتصر".

وبدوره قال ماكرون إن باريس وبرلين تقفان إلى جانب إسرائيل "في هذه اللحظة المأساوية"، مشدداً على أن "مكافحة الإرهاب هي قضية مشتركة". وترجم التنسيق الألماني الفرنسي نفسه من خلال تكثيف الزيارات على أعلى المستويات، وزار شولتز إسرائيل، وتنتظر الأخيرة ماكرون.

وسبق أن دار، الاثنين الماضي، سجال بين السفارة الإسرائيلية في مدريد والحكومة الإسبانية، على خلفية تصريحات وزيرة الحقوق الاجتماعية إيوني بيلارا (بوديموس)، التي دعت "الحكومة الإسبانية إلى ملاحقة (رئيس الوزراء الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو في جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية".

ودعت السفارة "رئيس الحكومة بيدرو سانشيز إلى أن يندد ويدين بشكل لا لبس فيه هذه التصريحات المخزية". لكنه رد بالقول: "يمكن لأي مسؤول سياسي أن يعبّر بحرية عن مواقفه بصفته ممثلاً لحزب سياسي".

أمن إسرائيل ضرورة أوروبية

يمكن وضع عدة أسباب في تفسير الانحياز الرسمي الأوروبي لإسرائيل، أبرزها أن هناك من يرى الالتزام بأمن إسرائيل ضرورة أوروبية ذات بعد في التاريخ الأوروبي القريب، خصوصاً بسبب الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، والمحرقة اليهودية التي ارتكبتها ألمانيا النازية، وشاركت فيها بعض الحكومات الأوروبية.

السبب الثاني هو أن هناك تياراً واسعاً يعد إسرائيل جزءاً أصيلاً من الثقافة الأوروبية، وامتداداً لها، وجرت محاولات لتضمين هذه الفكرة في الدستور الأوروبي الموحد، ولكن لقيت معارضة من قبل قوى اليمين التقليدي، الذي تراجع كلياً ولم يعد له أي دور سياسي أو حضور ثقافي مؤثر.

السبب الثالث هو أن اليمين الأوروبي المتطرف الذي بدأ يسيطر اليوم على نسبة كبيرة من القرار السياسي في المؤسسات الرسمية مثل الحكومات والبرلمانات، يعتبر إسرائيل "خط الدفاع عن أوروبا بوجه الإرهاب"، الذي يعني له "الأصولية الإسلامية"، وموجات الهجرة القادمة من الضفة الأخرى.

والسبب الرابع هو أن هناك لوبيات اقتصادية وإعلامية تسيطر على عدد مهم من الشركات والمؤسسات الإعلامية المؤثرة، ومثال هؤلاء رجل الأعمال الفرنسي فانسان بولوريه الذي يضع يده على عدد من وسائل الإعلام، ومنها قناة "سي نيوز" التلفزية، التي تعد جبهة مفتوحة لصالح إسرائيل.

وهناك مؤشرات على أن المواقف الأوروبية في طور التبلور أكثر فأكثر تبعاً لثلاثة عوامل، زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل، وتطورات الحرب على المستوى الميداني، والتفاعلات وردود الفعل الشعبية داخل البلدان الأوروبية التي تشهد تظاهرات تضامن كبيرة مع غزة، وانقسامات داخل القوى السياسية بين مؤيد لحرب إسرائيل، وبين رافض لها، ولا سيما بعد ارتكابها مجزرة المستشفى المعمداني، مساء 17 أكتوبر الحالي.

المساهمون