عودة المهدي بن بركة

عودة المهدي بن بركة

22 ديسمبر 2014

امرأة تتصفح إحدى روايات موديانو بعد إعلان "نوبل" (أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
كأنه البحث عن الزمن المفقود. أعرف أن هذا عنوان عمل مارسيل بروست السردي الطويل، ولكني لا أقصده. هناك روائي فرنسي، أيضاً، سيأتي، بعده بعقود، ويستأنف البحث عن الزمن المفقود، بمعنى المنصرم، أو المنطوي في غياهب الماضي. هذا الروائي هو باتريك موديانو، صاحب "نوبل" الأدبية لعام 2014.
بكل أسف، أعترف أني لم أسمع باسم باتريك موديانو، قبل أن تفاجئنا لجنة "نوبل" باختياره هذا العام. فهو ليس ممن تتسابق دور النشر العربية على ترجمة رواياتهم مثل مواطنه (بالتجنس) ميلان كونديرا، أو جان أشينوز الذي قدمه لنا المرحوم بسام حجار، أو مندوبنا إلى الفرنكوفونية، الطاهر بنجلون. ولم ينشر له، بالعربية، قبل فوزه بـ"نوبل" سوى رواية ترجمها صديقنا محمد المزديوي، ولم يقيض لها الانتشار، ربما بسبب اسم موديانو المغمور في عالم القراءة العربي حينها.
ثم، فوق كل ما سبق، لرواية موديانو عالم ونكهة خاصان. ليس كل من يقرأ رواية يمكنه أن يحب موديانو. قارىء الرواية، بالمعنى الواسع للكلمة، يبحث عن حدوتة في الرواية، عن قصة، عن حدث، وليس في أعمال موديانو، على ما يبدو، هذه "المستلزمات".
سريعاً، ألقى بعض دور النشر العربية روايتين له بعد فوزه بنوبل، على الأغلب، هما: عشب الليالي، والأفق، والمترجم واحد، هو توفيق سخان. وسريعاً، كذلك، قرأتهما لأعوّض نقصاً في معرفتي بنتاج روائي توّج، هذا العام، بأرفع جائزة أدبية في العالم. وكان انعدام معرفتي بموديانو نقصاً فعلياً، على الأقل في هذا النوع من الكتابة الروائية الذي يقع على ضالته فيَّ.. كأنه يبحث عن قارئ معين، هو أنا. لن أتحدث عن الترجمة، لأني لا أعرف الفرنسية، ولكني أخمّن أنها تسابق الزمن لتلبية طلب السائلين عن صاحب "نوبل" هذا العام. لذلك، لم تفلح، في نظري، بنقل التوترات التي يشعرها القارئ في تلافيف الرواية، خصوصاً في التقابلات التي غالباً ما يلجأ إليها الكاتب بين زمنين، عالمين، شخصين، في شارع واحد.
من لا يعرف باريس بمقدوره استخدام روايات موديانو دليلاً إلى شوارعها، أزقتها، الأمكنة المطلة على النهر، وتلك التي لا يزورها السياح، وربما لا يعرف بوجودها الكثير من الباريسيين. هناك عالم باريسي خلفي. بأسمائه، روائحه، أناسه، محاله، يتراءى لنا. حاضراً، أو منبثقاً من الماضي. لا تظهر لنا الشوارع الباريسية المكتظة بالسيارات والمتدافعين بالمناكب، لا نسمع الأصوات المتعالية من جنبات الأرصفة، أما الجادات السياحية العريضة التي تتلألأ فيها أضواء باريس العطور والنساء والموضة، فلا وجود لها في ما قرأته لموديانو.
سأتحدث عن "عشب الليالي". هناك حكاية خلفية تماماً فيها. هي مقتل القيادي المغربي المعارض، المهدي بن بركة. اختطافه، ثم تصفيته لاحقاً. لا تظهر حادثة اغتيال بن بركة موضوعاً رئيسياً، على الرغم من أنها تمسك، كخلفية، "أحداث" الرواية، وعلى مسرحها الغادر يتحرك أبطالها. الزمن هو الذي يظهِّر لنا صورة بن بركة. فالرجل الذي يستعيد الماضي، هكذا من دون سبب واضح، يكون، بالخطأ، في وسط "الخلية" التي تخطط لاختطاف بن بركة واغتياله. أشخاص فرنسيون غريبون وطالب مغربي مزيف وفتاة غامضة ومحقق شرطة، هم "أبطال" هذا الزمن المستعاد من مفكرة، ودوسيه يقدمه محقق الشرطة، بعد تقاعده، إلى الراوي يحتوي وقائع الجريمة. لا سياسة. لا يسار. لا يمين. هناك جريمة فقط. جريمة قتل إنسان بصرف النظر عن اسمه وموقعه.
هكذا نقع على اغتيال بن بركة، الذي هزَّ المغرب والعالم العربي، بل اليسار في العالم، في "عشب الليالي". فلم يبق، فعلاً، من تلك الفعلة السياسية القذرة، سوى الجريمة. وهذه الجريمة لا تزول ما دامت الكتابة قادرة على استعادتها وتسطيرها.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن