حتى نتجنّب حرب الثلاثين عاماً

حتى نتجنّب حرب الثلاثين عاماً

20 ديسمبر 2014

عمل لـِ(كيفين كيناو باتيست)

+ الخط -
في خضمّ الصراعات التي تجري داخل دول المنطقة وفي ما بينها، وفي سياق سعي بعض دول الإقليم، وفي مقدمتها إيران إلى تحقيق النفوذ والهيمنة عبر انتهاك سيادة جيرانها، وبناء مراكز قوة وتأثير لها في دواخل دولهم ومجتمعاتهم، وحيث يجري إرسال جيوش وميليشيات تتجاوز الحدود من دون أذن (البشمركة الكردية وميليشيات طائفية عراقية ولبنانية)، أو حتى تلغيها بشكل كامل (تنظيم الدولة)، تدخل المنطقة في حالة من الفوضى، تبدو الحاجة معها ملحةً للعمل على بناء نظام إقليمي مستمد من ظروف تجربة وستفاليا الأوروبية، أخذاً بالاعتبار وجود نقاط تماثل بين ما يجري اليوم في المنطقة وما كان يجري في أوروبا قبل أربعة قرون.

فقد شهدت القارة الأوروبية (وسط وشمال أوروبا تحديداً)، مرحلة من الصراع الدموي على أسس مذهبية بعد حركة الاصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر عام 1517، ودخلت على أثرها أوروبا في حالة من الاضطراب والفوضى، دامت نحو قرن، وبلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً.

وحرب الثلاثين عاماً هي سلسلة صراعات دامية جرت بين عامي 1618-1648 في الأراضي الألمانية التي كانت تعود، في ذلك الوقت، إلى الامبراطورية الرومانية المقدسة، لكن اشتركت فيها تباعاً معظم القوى الأوروبية، فيما عدا انكلترا وروسيا، وفي مراحل لاحقة من الصراع، امتد القتال إلى فرنسا وهولندا وإيطاليا وكاتالونيا. خلال السنوات الثلاثين، تغيّرت طبيعة الحرب تدريجياً كما دوافعها، وعلى الرغم من أن الحرب جرت، بادئ الأمر، تحت غطاء ديني، إلا أن الدوافع الاقتصادية والسياسية وشهوة السلطة أزالت كل الحدود بين الأطراف المتصارعة.

وما ميّز تلك الحرب هو استخدام جيوش المرتزقة على نطاق واسع، فجرى تدمير مناطق بأكملها تركت جرداء من نهب الجيوش. وانتشرت خلالها المجاعات والأمراض وهلك الملايين من سكان الولايات الألمانية والأراضي المنخفضة (هولندا) وإيطاليا. وجاء في موسوعة "قصة الحضارة" بعنوان: "إعادة تنظيم ألمانيا (1648-1715): "هبطت حرب الثلاثين بسكان ألمانيا من عشرين مليوناً إلى ثلاثة عشر ونصف مليوناً، وكان هناك وفرة في النساء وندرة في الرجال. وعالج الأمراء الظافرون هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات، كما ورد في العهد القديم. ففي مؤتمر فرنكونيا في فبراير/ شباط 1650 في مدينة نورنبرغ، اتخذوا القرار:- "لا يقبل في الأديار الرجال دون الستين... وعلى القساوسة ومساعديهم (إذا لم يكونوا قد رسموا)، وكهنة المؤسسات الدينية، أن يتزوجوا... ويسمح لكل رجل بأن يتزوج زوجتين".

انتهت الحرب بصلح وستفاليا، وهو اسم عام يطلق على معاهدتي السلام اللتين جرى التوصل إليهما في مدينتي أسنابروك ومونستر، الواقعتين في مقاطعة وستفاليا الألمانية، وتم التوقيع عليهما في 15 مايو/ أيار و24 أكتوبر/ تشرين الأول 1648. ويعتبر صلح وستفاليا أول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة، وقد أرسى نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى مبنياً على ثلاثة مبادئ أساسية، وضعت حداً للحروب الدينية، وإن كانت فتحت الباب أمام الحروب القومية وهي:

مبدأ السيادة: ويعني ممارسة الدولة مطلق السلطة على أراضيها وانفرادها التام بالتصرف داخل حدود إقليمها، بما يحقق مصالحها ورفض الإملاءات، أو الضغوط الخارجية المرتبطة بشؤونها الداخلية. مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول: ويرتبط بسابقه، ويؤكد عليه، وهو يعني حق كل دولة في اختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، بحرية تامة، وبما يتناسب مع مصالحها وأهدافها. ومن دون تدخل من أي قوى خارجية. مبدأ الولاء القومي: يقصد به أن يكون ولاء الأفراد والشعوب حصرياً للدولة ـ الأمة، وليس للكنيسة، ما يعني الفصل التام بين الدين والدولة، واعتبر المؤتمرون في وستفاليا أن من شأن هذا الفصل الحيلولة دون تعدد الولاءات، ومن ثم اندلاع الحروب الدينية.

صحيح أن المبدأين المتعلقين بالسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لطالما استخدمتهما أنظمة قمعية غطاءً للتنكيل بشعوبها، وحتى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحقها، إلا أنه في ظروف الصراع والانقسام المذهبي السائدة في المشرق العربي، وخصوصاً في الهلال الخصيب، يصبح احترام هذه المبادئ شرطاً لا غنى عنه، لوقف هذه الصراعات. فالانتهاك الإيراني السافر لسيادة سورية والعراق خصوصاً، بما في ذلك تسليح ميليشيات مذهبية وإرسالها للمساهمة في قمع تطلعات شعوب هذين البلدين، في حياة كريمة ومستقبل أكثر عدالة، ومحاولة تحويل ولاءات جزء من شعوب دول عربية خليجية مجاورة إلى مرجعيات دينية خارج أوطانهم، ودعم ميليشيات فئوية في السيطرة على الدولة، كما في اليمن، ثم القول بسقوط أربع عواصم عربية تحت السيطرة الإيرانية. ذلك كله يشكل وصفة فعالة لاستمرار الصراع، وأخذه طابعاً مذهبياً متزايداً. ففضلاً عن أن السياسات الإيرانية تدفع جهاديي السنّة في أنحاء العالم إلى تجاوز كل الولاءات الوطنية والتداعي إلى حرب إيران وأدواتها في المنطقة، فإن التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لدول المنطقة سوف يغري هذه، في المقابل، بالتدخل في شؤون إيران، بداعي حماية السنة المضطهدين فيها تارة، أو بداعي المعاملة بالمثل تارة أخرى.

وإذا أخذت الأمور هذا المنحى، أي ذهبت باتجاه حرب مذهبية، حيث تعلو الولاءات الدينية على القومية والوطنية، وتسقط معها كل الحدود، وتنهار الدول، ويرتفع شأن الميليشيات الطائفية، سوف تصبح عندها حرب الثلاثين عاماً في أوروبا مجرد تفصيل صغير في الصراع الذي تقف منطقتنا على شفا هاويته. لذلك، قد يكون من الأسلم للجميع، وخصوصاً لإيران التي لا تعدم عوامل الضعف والتفكك التي تحملها في كينونتها جميع دول المنطقة، المتنوعة بمذاهبها واثنياتها، أن يتم التوصل، وبسرعة، إلى صلح وستفاليا شرق أوسطي، يحترم فيه الجميع مبادئ السيادة الوطنية، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتصبح معه الدولة ـ الأمة المرجعية الوحيدة التي يدين لها المواطن بالولاء، ويختار، بكامل إرادته، لقيادتها النظام الذي يمثله، ويكفل مصالحه ويحترم كرامته وإنسانيته.