تفسير منطقي لانتصار الأوغاد!

تفسير منطقي لانتصار الأوغاد!

15 يناير 2015

مجرد كلام ..

+ الخط -
ربما كان هذا أكثر تفسير منطقي قرأته لظاهرة انتصار الأوغاد دائماً، ودعنا أبداً لا نقُل: وأبداً. التفسير كتبه الروائي الكبير، أبو المعاطي أبو النجا، في كتابه القصصي (في هذا الصباح) المنشور عام 1999 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وربما جاءت أهمية التفسير من أن صاحبه يعمل في مجال كمجال الثقافة، حظي فيه أوغاد كثيرون باهتمام، لم يحصل عليه كتّاب متميزون مثله، لأنهم لم يبرعوا في مجال العلاقات العامة والتسويق الثقافي، بقدر براعتهم في فن الكتابة وحده.
يقول أبو المعاطي أبو النجا، متأملاً ظاهرة انتصار الأوغاد في حياتنا: "لمرات كثيرة، حتى كدت أظنها القاعدة، وجدت صديقي النبيل يلقى الهزيمة، في كل معركةٍ، يخوضها ضد صديقي الوغد. في البداية، كانت هذه النتيجة تثير دهشتي، ثم أصبحت تهيج أحزاني، ثم كان الوليد الطبيعي لتفاعل الدهشة والأحزان هو رغبة قوية في أن أقترب من غبار المعركة الأبدية الدائرة بينهما، لعلي أفهم أكثر لماذا ينتصر صديقي الوغد، وينهزم صديقي النبيل؟".
وعلى عكس إجابات كثيرة سبقت أبو النجا إلى الإجابة عن السؤال، فألقت بالمسؤولية على الظروف الخارجية التي لا تساعد النبيل في حربه ضد أوغاد زمانه، أو اعتبرت هزيمته حتمية، لأنه يحارب من هم أكثر منه عدداً وعدة، خاصة أنه لا يمتلك ما يغري به كثيرين لنصرته، فإن أبو النجا يعتبر أهم سبب لهزيمة النبيل، هو أن حربه مع الوغد تبدأ مبكراً داخل نفسه ومع نفسه، فمشكلة النبيل أنه يحاول دائماً، أن يكون متسقاً مع مبادئه وتصوراته التي يؤمن بها للكون والحياة، فهو يدرك أن لكل إنسان تحيزاته الخاصة التي قد تشوش على بحثه عن الحقيقة. ولذلك، ومن أجل الوصول إلى حقيقة نسبية مقبولة ومعقولة، يبدأ النبيل في توجيه جزء من أنظمة دفاعه، ضد التحيزات التي توجد في داخله وتؤثر على أحكامه، فيكون بذلك قد أطلق الرصاصة الأولى في معركته مع الوغد على نفسه، بينما يوجّه الوغد كل نيرانه خارج ذاته. لذلك، حين يدخل معركته مع النبيل، تكون مهمته أسهل، لأنه يحارب خصماً يعاني من جراح ألحقها بذاته.
يقول أبو المعاطي أبو النجا في تأمله الموجع الكاشف: "أدركت أن أخطر نقطة ضعف لدى صديقي النبيل هي ذاكرته، في الوقت الذي اكتشفت فيه أن صديقي الوغد يملك ذاكرة انتقائية، فهي تملك قدرة مذهلة على أن تنسى تماماً، كل ما لا يخدم موقفه في المعركة الراهنة، وكأنه لم يحدث ذات يوم في هذه الدنيا، ليصبح الماضي فجأة وكأنه معرض به كل الأحداث والذكريات التي تخدم لحظة المعركة الراهنة فقط". مأساة النبيل، هنا، كما يقول أستاذنا أبو المعاطي أبو النجا، تبدأ من قوة ذاكرته ومن موضوعيتها أيضاً، فهو حين يستدعي من خلال ذاكرته جزئيةً من الماضي، لتخدم موقفه في المعركة ضد الوغد، لا يستدعيها وحدها، بل يستحضر السياق الذي نشأت فيه، لأنه يميل إلى البحث عن الوجوه المتعددة للحقيقة، ما يضطره إلى إعادة النظر والتأمل، ويفقده فرصة المبادأة في الهجوم أو اليقظة في الدفاع.
لذلك، كما يرى أبو المعاطي أبو النجا، يبدو الأوغاد ملوك اللحظة الراهنة دائماً، فهم يوظفون الماضي والحاضر لخدمة تلك اللحظة، أما النبلاء فإن لحظة الحاضر عندهم لا تأتي وحدها، لكنها تكون دائماً مثقلة بأعباء الماضي والحاضر والمستقبل. ومع أن الأوغاد ليسوا مصابين بكسل العقل، وليسوا عاجزين عن إدراك الحقيقة، ذات الوجوه المتعددة، لكنهم يفضلون اختيار الحقيقة البسيطة التي تختفي وراءها مصلحتهم في اللحظة الراهنة، ويتمسكون بالذاكرة الانتقائية التي تلغي كل الوجوه المتعددة للحقيقة، وتختار منها الوجه الذي يخدم معركتهم الراهنة.
ولا يبقى لمن يحسبون أنفسهم نبلاء، من عزاء بعد هذا التشريح المؤلم، سوى تأكيد أبو المعاطي أبو النجا أن قيام الوغد بإلغاء الماضي والمستقبل، لحساب لحظة الحاضر، ربما يجعله قادراً على أن يصوغ حقيقة بسيطة سهلة، تجتذب إلى صفوفه آلافاً من المتعبين من السير خلف النبلاء، الميالين إلى تعقيد الحلول، لكن ذلك التبسيط الدائم الذي يقوم به الوغد، يصبح مع الوقت سر مأساته، لأن حقائقه البسيطة تعجز مع الوقت عن حل مشاكل الواقع المركبة المعقدة، وعندها يفقد سحره على البسطاء المتعبين، فيتحول إلغاؤه الماضي والمستقبل من سر قوته إلى سر سجنه الأبدي، ليتمنى الناس، عندها، لو كانوا قد اختاروا منذ البداية الحلول المركبة، التي كان يمكن أن تحل مشاكلهم بشكل جذري فعال، بدلاً من التعلق بحلول بسيطة أوهَنُ من خيوط العنكبوت.
"واللي يعيش يا ما يشوف".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.