هاني فحص الذي عرفته

هاني فحص الذي عرفته

24 سبتمبر 2014

هاني فحص (1946-2014)

+ الخط -

لأني ابن الفضاء السني، ولدت فيه وكبرت، فقد كنت دائماً أبحث عمن يساعدني على اكتشاف العقل الشيعي، وفهم الآليات التي يشتغل بها. سكنتني هذه الرغبة منذ عدت من طهران، في أول زيارة قمت بها، بعد رجوع الإمام الخميني من باريس، لأكون أول صحافي في تونس يكتب تحقيقاً من خمس حلقات عن الثورة الإيرانية، في صحيفة الرأي التي كان لها الفضل في تغيير المشهد الإعلامي المحلي.
لم أستطع أن أظفر بذلك من الذين عرفتهم وحاورتهم وصادقتهم، وهم كثيرون، لا شك في أن كتاباتهم وحديثي معهم ساعدني على التعرف على الفضاء الشيعي الذي ولدت بعيداً عنه، ومعادياً له أحيانا، أو، على الأقل، كنت محشواً بالتشكيك فيه، وفي أتباعه.


استمرت هذه الحالة إلى أن تعرّفت على فقيدنا الذي رحل، هاني فحص. كان لقائي الأول به في الإسكندرية، وتعلقت بشخصيته العجيبة منذ اللحظة الأولى. في ظاهره شخصية دينية ذات مهابة. ولكن، عندما تقترب منه ويطمئن إليك، ويثق في صدقك وقدراتك الشخصية، تكتشف أن للرجل وجه آخر، يتجاوز بمسافات واسعة دائرة المذهب والطائفة والرهبة الزائفة التي يفتعلها كثيرون. وكلما غصت معه في عالم الفكر والدين والشعر والسياسة، وجدت أن علاقات الرجل بلا حدود أو ضفاف، وأن نوافذه مفتوحة على الجميع، بقطع النظر عن حواجز الدين والمذهب والجنس واللغة. لم يهجر بيئته التي صنعته، والتي بقي وفياً لها حتى رحيله، لكنه جنح إلى التمرد منذ وقت مبكر، وشق عصا الطاعة في وجه كل طرفٍ، أراد أن يضعه في قالب عقائدي أو مذهبي أو سياسي وتنظيمي. كان يريد أن يكون منتمياً وحراً في الوقت نفسه. منتمياً إلى عالمه الداخلي وقناعاته التي يبنيها بنفسه، وليست التي يرثها عن غيره ويطلب منه أن يتعامل معها كطعام جاهز غير مخير في تعديله، أو تبديله.
أخيراً، وجدت الشخص الذي أبحث عنه. هكذا قلت في نفسي، ولهذا أحببته، وحافظت على صداقتي معه، وحزنت كثيراً عندما بلغني خبر وفاته المفاجئة، في وقت كنت أنوي فيه أن أخاطبه هاتفياً، لأسأله عن أحواله. لقد وجدت نفسي أشبهه في بعض الجوانب، لأن الانقسام الخطير الذي يتعرض له المسلمون اليوم بسبب القوى السياسية التي تغذّي المواجهة بين السنة والشيعة، لن يعالجه، أو يخفف، من تداعياته الخطيرة، المتعصبون من المعسكرين، وإنما هي مهمة الذين تخلصوا من أوهام السلطة والتسلط، وحاربوا الخرافات والأساطير في أعماقهم، وقطعوا مع القبلية الفكرية والدينية، وجعلوا من أنفسهم أصواتاً حرة في مرحلة يهيمن عليها أمراء الحرب والأوصياء على العقول بحجة مصادرة الحقيقة الإلهية. فمن يريد أن يعالج هذا النوع من الحرب الباردة عليه أن يتجاوز هذه الثنائية، وأن يتحرر من ثقل الماضي، ليبلغ من اليقين، ما يجعله يصل إلى درجة الإيمان بوحدة المصير، انطلاقاً من وحدة المعتقد. وهذا ما لمسته في فقيدنا.
في آخر لقاء لي معه في بيروت، كان هاني فحص الشيخ المثقف والمتمرد خائفاً على التجربة التونسية، يريدها أن تصمد أمام العواصف الشديدة التي اندلعت في دول الربيع العربي، وغيّرت الموازين والأولويات. وكان متخوفاً، رحمه الله، من أن يصاب الإسلاميون، في تونس بالتحديد، بالغرور الذي يوقع أصحابه في حسابات خاطئة.
كما وجدته، أيضاً، مسكوناً باحتمال أن يكون معرضاً للاغتيال السياسي، وهو الذي بقي متمسكاً بالبقاء في قلب الضاحية الجنوبية من بيروت. وعندما دعاه بعض أصدقائه إلى التحصن من باب الاحتياط، ذكر لي أنه رأى أفضل استراتيجية للدفاع عن نفسه أن يجلس للمطالعة، أو الكتابة، على كرسيه المريح في الشرفة المكشوفة على الجميع، كلما كان الجو مناسباً. وعندما دعوته للمشاركة في إحدى فعاليات منتدى الجاحظ الذي كنت رئيساً له في تونس، أرسلنا له التذكرة، وتابعت معه خروجه من منزله في اتجاه المطار، بعد التأكد من عزمه على السفر. لكن، عند صعوده إلى الطائرة، لاحظ حركة غريبة من شخص لم يطمئن له. فأعلمني في آخر لحظة في رسالة هاتفية عن قراره العدول عن السفر، اعتقاداً منه بأنه قد يكون مستهدفاً في حياته من جهة غامضة لم يحددها.
لا أدري إن كان هاني فحص توفي راضياً عن حياته بعد كل التحولات التي عاشها. لكن، من المؤكد أنه كان يحلم بأن تكون النتائج أفضل. أراد أن يغيّر، لكن الواقع المعقد كان أكبر بكثير مما توقع، رحمه الله.

  
   

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس