في عودة فلسطين

في عودة فلسطين

31 يوليو 2014
+ الخط -

وفية لقدرها الأسطوري، تعود فلسطين من جحيم الألم والقتل، لتستعيد معركة الضمير الإنساني، ولتعيد بناء القضية، ولتنتصر على أيديولوجيا النهايات التي طالما بشرت، بنفس احتفالي مقيت، بموت فلسطين واندثار المعنى الذي ظلت هذه الجغرافيا تمنحه للتاريخ، وليسترجع اسم فلسطين بهاءه، فهو اسم لا يليق بحياد المعاجم.
كنا قد أصبحنا وجهاً لوجه أمام سؤال قاسٍ: هل ثمة فعلاً مجال لاستمرار الحديث عن "قضية فلسطينية"؟
كانت، تقريباً، فلسطين قد كفت عن أن تكون اسماً مستعاراً للحلم وعنواناً للتقدم. مسارات التفاوض وإعادة التفاوض حول أنصاف أنصاف الحلول، أدخلت ما تبقى من القضية في متاهات وتفاصيل التكتيكات التي بلا أفق. التحارب الفصائلي الداخلي أضاع بوصلة الانتماء، وأصاب الهوية الفلسطينية بشرخ حاد.
لنتذكر، ليس الصراع حول فلسطين جديداً. كانت فلسطين دائماً رأسمالاً رمزياً للاستغلال السياسي، وللرهانات الايديولوجية، وقطعة جاهزة في البلاغة الخطابية لكل العواصم العربية. فقد كان لكل نظام عربي فلسطينه التي على المقاس، وفي حالات معروفة، كان لبعض الأنظمة فصيلها الفلسطيني، بل وحتى بندقيتها الفلسطينية.
لكن، في النهاية، كانت هناك مرجعية وطنية مشتركة للقرار الفلسطيني، وهي التي ظلت ترسم العنوان الوطني للقضية، وتحدد عناصر موقفها العام.
ما وقع بعد ذلك أبعد من تناقضات داخلية لحركة تحرر وطني، ما وقع انشطار مدوٍ في المرجعية الوطنية نفسها، وشرخ واسع في وحدة نضال الشعب الفلسطيني، كان على وشك وأد القضية بالكامل.
قبل عقدين، تدخل غزة التاريخ الانساني، من خلال شعار سيجوب كل الآفاق "غزة وأريحا أولاً"، كانت حينها غزة عنواناً للتسويات السياسية الممكنة، وللذكاء الاستراتيجي الذي يسمح بسلام الشجعان، غير أن "السجع الرنان" لذلك الشعار لم يكن كافياً لاستدراج إسرائيل إلى منطقة حل الوسط التاريخي.
وفي يوميات السياسات العربية، سيصبح الشعار المذكور حجة إضافية لتقديرات المدافعين عن الخيارات الأكثر "واقعية"، بما في ذلك أكثرها استسلاماً وانهزامية، وسيصبح لـ "غزة وأريحا أولاً" أثرها الحاسم على الثقافة السياسية لقوى اليسار وعموم الديمقراطيين داخل الساحات العربية.
في وسع غزة اليوم، كما كانت أمس (2012)، وأول من أمس (2008) أن تخلع رداء "أوسلو"، وأن تصبح عنواناً مختصراً لقدرة الشعوب على الصمود والمقاومة.
المقاومة اليوم في غزة، وهي تعيد فلسطين إلى واجهة الأحداث، وتعيد لملمة الوجه الأخلاقي للقضية الفلسطينية، وهي تخترق مساحات هائلة من التعاطف السياسي والإنساني في أكثر الساحات انجذاباً للدعاية الصهيونية، لا تعمل، في الحقيقة، سوى على إحياء قضية كانت مهددة في وجودها.
يدرك الفلسطينيون أن استراتيجيات استعمال القضية من المحاور الإقليمية جزء طبيعي من خريطة المحيط المعقد، ويعرفون، بالتأكيد، أن معركتهم غير بعيدة عن أجواء الطائفية الجديدة التي تطوق المنطقة عبر تصاعد الاحتراب المذهبي بين الشيعة والسنة، ولا هي معزولة عن تداعيات شرق جديد، يذهب نحو التطرف والجنون.
وأكثر من ذلك، هم يدبرون بذكاء تحولات النظام الإقليمي، خصوصاً على ضوء ضمور الدور المصري، إذ لم ينجروا إلى حضيض الاستفزازات "المتصهينة" لقطاعات واسعة من الإعلام المصري، وتمسكوا بالانفتاح على القاهرة.   
يمكن لانتفاضة فلسطينية ثالثة، تلوح بوادرها في الأفق، أن تعيد تعريف الصراع إلى أصله الأول: كمقاومة للاحتلال، وأن تنقلنا من مصالحة الفصائل إلى وحدة النضال الشعبي، وأن تقنعنا بأن فلسطين، ملهمة الثورات وحركات التحرر، ليست مستعصية بالتأكيد على ربيع التغيير. يمكنها أن تفعل ذلك إذا هي نجحت، بطابعها الشعبي، في الانتصار على قطائع السياسة التي فرضها تقاطب السلطتين في غزة وفي القطاع، وعلى قطائع الجغرافية التي فرضها السلام الكاذب.
 

 

 

دلالات

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي