بين اللعب والتلاعب

بين اللعب والتلاعب

22 يونيو 2014

Paulo Buchinho

+ الخط -
يشعر سكان البلاد العربية خصوصاً، والعالم الذي ما زال في طور النمو عموماً، بأنه يجري التلاعب بهم، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، من الكبار في هذا العالم. وهذا الشعور مبني على معطيات متخيلة أحياناً، وأخرى مسنودة، ولو لم تكن موثّقة في أحيان أخرى. ولهذا الشعور المؤلم وقع مريح عكس ما يفرضه المنطق. فاعتبار أن مصائر قوم أو مآلات دول تُرسم وتُطبخ وتُعجن وتنضُج في مطابخ، لا ناقة لنا فيها ولا ملعقة، يخلّص الذهن أو ما تبقى من العقل العامل، من ضرورة التركيز في التفكير ومحاولة الخوض في المسائل الصعبة التي أخّرت، أو أعاقت، أو أماتت، التقدّم نحو ما وصلت إليه دولٌ، كانت في مراتب أضعف، وأكثر تخلفاً منذ عقود قليلة.
تنعكس، إذن، هذه الحالة من التسليم بالطريق المرسوم، وبالمصير المحتوم، على غالبية تصرفات ساكني هذه المناطق المتخلّفة وتعليقاتهم واستنتاجاتهم، من حيث المبادرة على الأقل، وإن هي أسبغت على ذاتها لقب المُتخلّفة من"الآخر" الموجود أو المُتخيّل. ويصبح من السهل أن تبتعد النفوس عن محاسبة الذات، وعن النظر في المرآة، بل هي ترتاح كثيراً للقول بمسؤولية الأغيار وبراءة الذات. ويمتد هذا الشعور على الأصعدة كلها، مهما كبرت أو صغرت أو بلغت من الأهمية، أو لم تبلغ.
وفي ظلّ هذا الشعور الجامع بين التسليم بما هو "مكتوب" والارتياح لعدم المسؤولية، تأتي مباريات كأس العالم لتُعيق أذهان الملايين في العالم عن التفكير بالأمور الجسام عموماً، وأبناء منطقتنا العربية من الشعور بتأنيب الضمير المستتر حول ابتعادهم طيلة العام عن ممارسة جرم التفكير خصوصاً. ويساعد هذا الحال العقول على الدخول في مرحلة الخمود والخمول "الرياضيين". وبالتالي، هو يَدفعها إلى التركيز الشديد والعميق على قطعة جلدية تتقاذفها أقدام مليونية الأثمان، في هذا المستطيل الأخضر الذي يركض في حيّزه اللاعبون، ذات اليمين وذات اليسار، والذي تحمل جنباته أبعاداً اجتماعية وسياسية ومالية، تغيب حتماً عن غالبية المتابعين الذين يبحث جزؤهم الأكبر عن المتعة، الممتزجة بحسٍ تعصّبي متشعّبٍ، قومياً أو دينياً أو قارياً أو مذهبياً أو عرقياً.

فيصير اختيار تشجيع الفرق مرتبطاً بالحسّ البدائي للذات البشرية، بعيداً عن أي جزئية أو كليّة، تمنح المشهد عمقاً أكبر، أو تساعد الذهن الباحث عن التفتّح على ملاءمة المتعة بالفائدة أو التمتع بالتعقّل، أي في النهاية، إعمال العقل من دون تجميد الحواس البدائية أو المتطورة. وينسى المتابعون تلاعب المفاهيم الاقتصادية والمالية، أساساً، في هوايتهم المفضلة، ناعتين كل من أراد الخوض في أمواج هذا الكلام بأنه مثل باحثٍ عن جنس الملائكة.
في المقابل، "الآخر" المتآمر علينا في أذهاننا المحكومة بنظرية المؤامرة، صار يعيد حساباته علمياً على الأقل، ويتابع الاستمتاع بما لذ وطاب من "إبداعات" النجوم، مع إضفاء جرعة سوسيولوجية وجيوبوليتكية على المشهد. وبالطبع، ليس هذا الآخر المشاهد العادي، بل النخبة المثقفة التي تستعمل العلوم الاجتماعية في تحليل كل الظواهر، حتى أكثرها بساطة، كما يحلو للعامة أن تعتقد. ويحاول هذا "الآخر" أن ينشر فكره، ليس فقط على المستوى العلمي النخبوي، بل هو ينقله مُبسّطاً إلى القراء عموماً، في مقالات تشرح، أو هي تحاول، الأبعاد المختلفة والمعقدة، أو البسيطة، لهذه الكرة المستديرة التي تشغل الناس بطوائفها ومذاهبها وأعراقها، وتحرمها من الاهتمام بأمور حياتية فردية أو تمسّ الجماعة، أي جماعة كانت.
على الرغم من أن اللاعبين من أصحاب الملايين يلاعبون الكرة والعواطف والأحاسيس، ومع أن أصحاب المليارات المعلنين والممولين والمستفيدين يتلاعبون من خلفهم بالعواطف ذاتها والأحاسيس ذاتها، إلا أن المتعة في الأداء الجميل والفنيات العالية لا يمكن أن تحرم المتابع "المستنير" من الرغبة في التعرف عن قرب على ما تحمله هذه اللعبة، وما يُحيط بها من كواليس وكوابيس.
في هذا الإطار، وفي إطار "إغناء" التفكير بالبسيط من الأمور، يُصبح من المناسب أن تتم العملية الانتقائية للفريق المُراد تشجيعه في هذا "العرس الكروي"، بناء على معايير أكثر حساسية للشأن العام.
فمثلاً، يبتعد مؤيدو الحريات عن الفرق التي تمثّل دولاً مستبدة، ولو أنها من الجنوب، ولو أنها أيضاً في انتصاراتها ستفرح شعوباً مقهورة، ولكن انتصاراتها ستُستقطب سلطوياً، وما أكثر الأمثلة. ويقترب محبو قضايا الشعوب العادلة من الفرق التي تتسم سياسات بلدانها الديمقراطية حتماً بدعم حقوق الأمم والجماعات المغبونة. ويمكن، أيضاً، أن يغلب الحس المتوسطي الذي يجمع جنوب الغرب الديمقراطي بشمال العرب، الطامح بحريته في اختيار درجة ميل القلب. ومهما يكن التقارب القومي قوياً، فمن المستحسن، مثلاً، أن لا يُصار إلى تشجيع فريق ينتمي أفراده إلى رابطةٍ قومية "تجمعنا"، لأن الاستبداد يُحيل انتصارات الأفراد إلى ذاته "المقدّسة".
بين اللعب والتلاعب، يمكن إعمال الذكاء مع العواطف. بين الرفض القاطع لهذه "التسلية" واستسخافها والتهكم على متابعيها، أو المتابعة "البهيمية" لمجرياتها، يمكن إعمال التحليل والتعمّق في الظواهر. بعيداً عن تسييس الرياضة، يُعتبر الوعي بالرياضة المُسيّسة والمُستقطبة والمُستغلة محموداً.