اغتيال المتوكل وأزمة "الزيدية"

اغتيال المتوكل وأزمة "الزيدية"

10 نوفمبر 2014

جنازة محمد عبد الملك المتوكل في صنعاء (4نوفمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

ليس اغتيال الدكتور محمد عبد الملك المتوكل حدثاً استثنائياً في الساحة السياسية اليمنية التي طالما شهدت عمليات اغتيال لسياسيين وقيادات عسكرية، وكانت أكبر موجة اغتيالات تلك التي طالت الحزب الاشتراكي، أثناء الأزمة التي لحقت الوحدة عام 1990، وبدأت منذ 1991 واستمرت حتى 1993، وأودت بحياة أكثر من مائة كادر حزبي نشط، معظمهم من محافظاتٍ شمالية، وكانت أحد أبرز تجليات هذه الأزمة، وسبباً أساسياً لانعدام الثقة بين طرفي الوحدة وانفجار الحرب الأهلية عام 1994. ومن عمليات الاغتيال الفردية تلك التي قضى فيها الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، جار الله عمر، في ديسمبر/كانون الأول 2002، وهو مهندس تحالف أحزاب اللقاء المشترك. وتمت الجريمة أثناء إلقاء عمر خطبة في المؤتمر العام لحزب التجمع اليمني للإصلاح، حيث تم انتقاء التوقيت والمكان بعناية، لنسف فكرة أحزاب اللقاء المشترك في مهدها.

هل تعد عملية اغتيال المتوكل فردية، بحكم الطبيعة المعتدلة للرجل، والتي تقربه من جميع أطياف الحياة السياسية اليمنية، على الرغم من خفوت نشاطه، بعد حادثة الموتورسيكل التي أصيب فيها في ديسمبر/كانون الأول 2011؟ أم أنها كانت عملية اغتيال ضمن موجة اغتيالات طالت الكوادر السياسية الزيدية المعتدلة، بعد اغتيال الشخصية السياسية الزيدية، الدكتور عبد الكريم جدبان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، ثم الدكتور أحمد شرف الدين، ممثل "أنصار الله" في مؤتمر الحوار الوطني في يناير/كانون الثاني عام 2014؟

تجمع جرائم اغتيال المتوكل، وقبله شرف الدين وجدبان، أن ثلاثتهم شخصيات سياسية زيدية معتدلة، وإن اختلف المتوكل عن الآخريْن بأنه لا يمكن وصفه من مناصري جماعة الحوثي، أو أنه شخصية تمثل المذهب الزيدي. فالرجل يصعب تصنيفه سياسياً، ويمكن، تقريبياً، ومن التعريف العام للحزب الذي أسسه "اتحاد القوى الشعبية"، اعتباره شخصيةً تتبنى قيماً منفتحة وديمقراطية بمرجعية زيدية، حيث كان يحاول تفسير النصوص الدينية الإسلامية بشكلٍ يتناسب مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. والأهم أنه كان مقرباً من جميع التيارات السياسية، وأكثر ما يميزه حضوره الشخصي الودود والمتواضع، وكان، في الأزمة الأخيرة، مناصراً للحوثي، وبرر له أفعالاً كثيرة، وانتقد بعضها.

وتطرح عملية اغتيال المتوكل السؤال البديهي بعد كل عملية اغتيال، من القاتل؟ في كل مرةٍ، تمر حوادث الاغتيال من دون تحقيقاتٍ في اليمن، ثم بمرور الوقت، يرجح فاعل سياسي ما له مصلحة وراء الاغتيال. هذه المرة، يبدو الوضع أكثر فوضوية وأصعب بشأن الجزم عمّن يكون صاحب المصلحة في هكذا عمليات، تطال الشخصيات السياسية المعتدلة في اليمن، فمن هو صاحب مصلحة تفريغ جماعة الحوثي من أي وجوهٍ معتدلة، ومن هو صاحب مصلحة إخلاء الساحة السياسية اليمنية من أي زيدي معتدل؟

عملية اغتيال المتوكل فرصة لفتح ملف حساس، يتعلق بمشكلة المرجعية السياسية والدينية لحركة الإسلام السياسي الزيدي، والتي تصدرها الحوثي، أخيراً، وبرزت، كما هو معروف، قوة مسلحة تحتكر، كلياً، تمثيل المذهب الزيدي، فيما تفترضه تعدّياً على المناطق الزيدية، بنشر السلفية فيها، حيث ارتكب السلفيون ممارسات مستفزة فيها، مثل منع الزيود من رفع آذانهم بجملته التمييزية "حي على خير العمل"، وزيارة قبور أئمة زيدية معروفين، ونشر معاهد علمية كان يشرف عليها الإخوان المسلمون.

وكان الزيود قد بدأوا في تأسيس ما يشبه مخيماً صيفياً، يُدعى منتدى الشباب المؤمن، لتدريس أصول المذهب الزيدي بشكل مبسط في 1992، وتوسعت هذه المعاهد والمنتديات، حتى وصلت إلى ذروتها قبل حرب صعده عام 2004، ثم أغلقت نهائياً. ومن اللافت أن الحوثي لم يعد فتح تلك المعاهد في مدينة صعده، بل وضيّق على بعض تلامذتها، وبعض المراجع الزيدية التقليدية.

كانت مناهج تلك المعاهد تصدر بترخيصٍ من والد حسين وعبد الملك الحوثي، العلامة الزيدي بدر الدين الحوثي، ومن ثم تأسست الحركة الحوثية، بترديد ابنه حسين الحوثي (قتل عام 2004 في الحرب) شعار الصرخة المستلهم من شعارات الثورة الإيرانية "الموت لأميركا.."، وبسببها قامت حرب صعده. ويُذكر أن خلافاً حاداً نشب بين أسرة الحوثي وأحد مؤسسي الحركة، محمد سالم عزّان، والذي كان يمثل المنهج المعتدل، ولم يكن ميالاً لشعار الصرخة أو تلك التأثيرات الدخيلة.

بسبب شعار الصرخة، وسفر بعض الزيود للدراسة في إيران، ومنهم مؤسسو المنتديات، مثل حسين الحوثي ومحمد عزان، دأب خصوم الحركة في تصويرها حركة ليست زيدية، بل اثنى عشرية، في محاولة لتصويرها حركة غريبة ودخيلة على اليمنيين. فيما لا تؤمن الحوثية بأبرز أفكار الاثنى عشرية، مثل الغيبة والعصمة وغيرهما، لكنها استعارت من الاثنى عشرية مظاهر احتفالية غريبة على اليمنيين، مثل الضريح الفخم الذي تم تشييده لحسين الحوثي وإحياء كربلاء بما هو غير معروف في المذهب الزيدي. ولهذا الأمر علاقة بطبيعة الجماعة التي نشأت كرد فعل ضد الوهابية التي فرضت نفسها محتكراً للإسلام، وترفض التنوع المذهبي، وبالتالي، جاءت عملية إحياء المذهب الزيدي، كما يتصور، في محاولةٍ لتأكيد طابعها الشيعي المتمايز. وكانت مرجعيات زيدية تقليدية في أثناء حروب صعده قد اعتبرت الحوثية اثنى عشرية، وليسوا زيوداً، ثم سرعان ما تغير موقفهم بعد 2011، وسقوط علي عبد الله صالح، وأقرّوا بزيدية الحوثي. وهذا موقف تتضح علاقته بمحاباة القوة، غير أنه يعكس حقيقة مهمة، وهي صعوبة تعريف الطبيعة الدينية لجماعة الحوثي.

فهل يمكن افتراض الحوثي جماعة زيدية إحيائية، وامتداداً لمنتدى الشباب المؤمن، كما يفترض بعضهم؟ وفي الواقع، ليس لتلاميذ المنتدى حضور قيادي في الحركة التي تعد إحيائية، ويفترض منهجية فكرية وفقهية للجماعة، وهذا غير موجود، حيث تعتمد الجماعة في تجنيد أنصارها على ملازم خطب مؤسسها، حسين الحوثي، وهي خطب سياسية، تستعير الجملة الدينية، ولكن من دون بُعد فقهي أو فكري، بل بطريقة عاطفية، فيها قدر من السطحية، معتمدة على أفكار مثل معاداة أميركا والغرب والسعودية وحب آل البيت والمظلومية، وهي ملازم أكثر سطحية وبساطة من رسائل التوحيد للإمام محمد عبد الوهاب الذي صار مرجعية الإسلام السلفي.

أي أن حركة الحوثي لا كتب ومرجعيات فكرية لها، ولا يمكن معرفة إلى أي تيار زيدي تنتمي، مثل تيار الهادوية أو الجارودية أو الصالحية. لكن الأهم أن قائد حركة الحوثي ينقض أبسط مبادئ الزيدية في الإمامة. الزيدية تؤمن بفكرة الخروج على الحاكم الظالم والتمرد المسلح، لكن بشرط وجود إمام تتوفر فيه شروط الإمامة، وأبرزها أن يكون عالماً بأمور الدين، حسب المنطق الزيدي. ولم يعلن عبد الملك الحوثي نفسه إماماً، وهو، ببساطة، يفتقد جميع شروط الإمامة، وأبرزها العلم، ويتضح هذا من لغته العربية البسيطة، والتي تكشف بساطة معارفه، أي أن ما تفعله جماعة الحوثي مخالفة صريحة للمذهب الزيدي.

الحركة الحوثية، مثل معظم حركات الإسلام السياسي، العنيفة خصوصاً، تتعامل مع الدين بانتقائية، وكمحاولة لشرعنة عنفها، بقدر لا يخلو من تسطيح معتمدين على استدرار عواطف الناس، وإيجاد حالة خوف من خصوم وأعداء خطيرين، مثل أميركا أو القاعدة، في حالة الحوثي، لكنها تخلو كالعادة من أي مرجعية دينية تقليدية، ومن أي مرجعية سياسية، تحاول الإجابة عن تساؤلات عصرية، متعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كما كان الدكتور المتوكل. وهذا يطرح تساؤلاً مشروعاً: إلى أين تذهب هذه الحركة، خصوصاً أن الشخصيات المعتدلة التي قد تشكل جسراً بينها وبين الآخرين تتساقط، واحداً تلو الآخر، وتخلو الساحة من كل الشخصيات التي كان في وسعها فرملة جموح جماعة الحوثي وعنفها.