خطأ جسيم في "الكاستينج"

09 فبراير 2015
+ الخط -
"الكاستينج"، إن كنت لم تسمع به من قبل، هو اختيار الممثلين الأدوار المكتوبة في الأعمال الدرامية، بشكل يناسب ملامح الشخصية، كما رسمها الكاتب، ويقنع المشاهد بملاءمة الممثل للدور الذي يلعبه. ولذلك، كان من المعاني الحرفية لكلمة casting بالإنجليزية صب السبائك في قوالب ملائمة لها. ولعلك، إن تأملت تيترات الأعمال الفنية الأجنبية، تلحظ وجود مخرج متخصص في اختيار الممثلين أدوارهم بالتنسيق مع مخرج العمل، على عكس ما يحدث في أغلب أعمالنا الدرامية، حيث تضاف هذه العملية إلى أعباء المخرج الذي يطلب مساعدة المؤلف فيها أحياناً، تاركاً اختيار الأدوار الثانوية لمساعديه، ما يؤدي كثيراً إلى تدخل المنتجين بالمجاملات والضغوط والوساخات، فينعكس ذلك على المستوى الفني لأعمال كثيرة، ربما تكون قد سمعت بعض النقاد يعزو مشكلاها، إلى أخطاء جسيمة في "الكاستينج"، منعت اختيار الممثل المناسب للدور المناسب.
على مدى عشرات السنين، تعوّد مخرجو الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية في مصر أن يسندوا أدوار القضاة، أياً كانت مساحتها، إلى ممثلين، تبدو عليهم ملامح الوقار والاتزان والاحترام، ليعطوا انطباعاً درامياً مسبقاً بقدسية العدالة وشموخ القضاء، ستلمس ذلك حتى في الأعمال التي قدمت شخصية القاضي بشكل كوميدي، مثل مسرحية (شاهد ماشافش حاجة) وأفلام (الأفوكاتو) و(محامي خلع) و(رجل فقد عقله)، التي لم يقم مخرجوها بإساءة اختيار شكل القاضي، من أجل الإضحاك، لكيلا يسمعوا من مشاهدي أعمالهم تعبيراً مثل "بقى بالذمة ده شكل قاضي؟". لذلك حرصوا على اختيار ممثلين وقورين، يمنحون إحساساً باحترام منصب القاضي، في عُرفٍ سينمائي، يمكن أن نعتبر أنه فقد معناه، وانتهى إكلينيكيا، على يد القاضي محمد ناجي شحاتة، الشهير بقاضي الإعدامات الجماعية.
صدقني، بعد ما رآه المصريون من فيديوهات وصور لأداء هذا القاضي داخل المحكمة، لن يعترض مشاهد، مهما كان فلحوساً، على إسناد مخرج مجدد دور القاضي لممثل حبسته ملامحه في أدوار القتلة وتجار المخدرات، ليكسر به الصورة النمطية لدور القاضي على الشاشة، لأن ذلك المخرج سيشهر في وجوه المعترضين فيديوهات القاضي شحاتة، مبرراً بها وجاهة اختياره.
لن يكون، أيضاً، من حق الرقابة أن تتهم عملاً فنياً بالحط من قدر القضاة، إذا أظهر العمل قاضياً يقوم بالتطجين، وهو يتحدث مع الدفاع، أو وهو يصدر للمتهم صوتاً حلقياً منغماً، ويستخدم في حواره معه عبارات رقيقة الحاشية، من نوعية "البلد قرفت منك ومن أشكالك"، فقد فعل مثل هذا ناجي شحاتة على رؤوس الأشهاد، حين جمع بين دوري القاضي والجلاد في بروجرام واحد، ليقوم بتغيير المفاهيم المتداولة في الذاكرة الجمعية عن العدالة وحقوق المتهم ونزاهة القضاء، ويقوم، أيضاً، بتحطيم الصورة الذهنية للقاضي الوقور المتزن في الذاكرة الجمعية للمصريين.
ربك والحق، مصر كلها تعاني منذ فترة من مشكلات جسيمة في الكاستينج، في كل المواقع. وإذا كنت ستخالفني في ذلك، دعني أفترض أنك أصبحت متخصصاً في الكاستينج، وأُسند إليك اختيار ممثلين للعب أدوار البطولة، في فيلم أجنبي، يحكي قصة بلد نجح حاكم فرد في حكمه ثلاثين عاماً، قبل أن تطيحه ثورة شعبية، ليخلفه في الحكم لفترة انتقالية قائد الجيش، ثم تجرى بعدها انتخابات تنافس في مراحلها النهائية مرشحان، فاز أحدهما بالرئاسة، وذهب الآخر لأداء العمرة في أبوظبي، ثم خلع الجيش الرئيس عقب مظاهرات حاشدة، ليحل محله رئيس المحكمة الدستورية، قبل أن يخلفه في الرئاسة قائد الجيش الذي عيّنه الرئيس المنتخب، بعد أن انبهر ببكائه في صلاة الظهر.
تعال نفرض أنك أخذت الصور الفوتوغرافية للشخصيات الحقيقية التي لعبت بطولة الأحداث، وعرضتها على مخرج الفيلم الذي لم يكن قد تابع ما حدث في مصر، طوال السنين الماضية، طيب بذمتك ودينك، ألم تكن ستسمع منه "كلمتين في جنابك"، يتبعها محاضرة عن أصول اختيار الممثلين، بطريقة ذكية تقنع المشاهد بالشخصية، ما كان سيضطرك لمصارحته بالحقيقة المرة، فتريه الأداء الفعلي للأبطال الحقيقيين، فيُذهل حين يرى، بينهم، من يتصرف بأداء يليق بزعيم عصابة لسرقة المواشي، ومن يبدو زائغ النظرات، كأنه تحت تأثير بنج كلي أبدي، ومن يجمع الكلام بالعافية، كأنه زبون مستديم في خمارة رخيصة، ومن يلقي خطباً مليئة بالهرتلة كأنه شيخ يعظ مصلين، يغالبون النعاس في زاوية بائسة، ومن يبدو "غامضاً وقامطاً" كقاتل تسلسلي أخرس، ومن يخاطب شعبه بنحنحةٍ تليق بمطرب عاطفي فاشل، ليعلن المخرج اعتذاره الفوري عن العمل، قائلاً بوضوح إن فيلماً كهذا، تقوم ببطولته شخصيات أسيء اختيارها، لا بد أن يكون مصيره الفشل الذريع.
دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.