الوطن سقفنا

الوطن سقفنا

19 أكتوبر 2014
+ الخط -

"أين يجب أن تعيش على الكرة الأرضية؟"

قررت أن آخذ الاختبار المعنون بـ"أين يجب أن تعيش على الكرة الأرضية"، تحت إغراءات صفحة الـ"فيسبوك" التي امتلأت بنتائج الأصدقاء الذين أخذوا الاختبار نفسه. لم يكن دافعي الأول فضولي لمعرفة النتيجة، بقدر ما كان فضولاً لمعرفة نوع الأسئلة التي في وسعها أن تحدد البلد المناسب لمعيشة على هوى الخاطر: بمناخها الطبيعي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والأيديولوجي.

وبالفعل، وجدت أن بعض الأسئلة تستشف التفضيلات الشخصية بشأن المناخ الطبيعي، وبعضها تستشف التفضيلات الثقافية المجتمعية، والتفضيلات الثقافية العالمية (في أي عصر تختار أن تعيش)، وبعضها تستشف التفضيلات الاجتماعية (التأقلم مع العزلة، أو تفضيل الحشود المتوسطة أو الضخمة). كما أن بعضها يستشف التفضيلات الأيديولوجية (أي من هذه المقولات يناسبك أكثر، وما هي القصة التاريخية/الأسطورة التي تراها الأكثر أهمية).

وعلى بساطة الاختبار، وربما سطحيته، إلا أنه حقيقة قد يكون مؤشراً مهماً لعدد من القضايا المتعلقة. أتخيل، مثلاً، لو أردنا استنباط مقياس رياضي، يقيس المسافة باستخدام مبادئ الإحصاء بين نتائج الاختبار لتحديد مدى تجانس شعب ما (بعد تهميش الأسئلة ذات التفضيلات الطبيعية الشخصية).

أتخيل أنه، بعد تطبيق الاختبار، على شريحة واسعة واكتشافنا أنه ربما رمى كل منا في بقعة مختلفة من أصقاع العالم (إذا لم تكن الظروف السياسية قد رمت بعد كلاً على شاطئ)، ربما يأتي مقياس كهذا، ليكون مجرد إثبات علمي لواقع مؤسف، بتنا نعايشه، كسوريين، ويطالعنا أحد مظاهره كل يوم: واقع نسيجنا الاجتماعي الممزق. وقد يساعدنا الاختبار، أيضاً، على تحليل العوامل الكامنة وراء هذا التشظي، لنجد، ربما أن كل فئةٍ فينا تحمل مبادئ وقيماً اجتماعية: ثقافية، سياسية/اقتصادية، وأيديولوجية، ليس فقط مختلفة، بل ومتضاربة أيضاً.

متضاربة إلى درجة أن إحدى الفئات لا تجد غضاضةً في إفناء فئة أخرى، في معركةٍ يسهل أن تتحول إلى معركة وجودية. وعلى الرغم من أن هذا الاختلاف ليس المشكلة بحد ذاته، فشعوب أخرى كثيرة تواجه الواقع نفسه، بسبب الاختلافات الإثنية والعرقية والثقافية، ولكننا نجد أنها نجحت في احتوائه بواسطة تطبيق مبادئ التعايش المدني والديمقراطية والأحزاب التمثيلية. قد تكون استغرقت في ذلك عقوداً طويلة من المعاناة والتضحيات، وربما الحروب والدماء، لكنها في النهاية وصلت.

وصلت وأكملت مسيرتها الحضارية، وازدهرت، حتى بتنا نتأمل أن تكون نتيجة لعبة اختبار بلد المعيشة ذاك، أن يختار لنا إحداها، بينما لم ننجح، نحن، أن نصل إلى مرحلة شبيهة، فجاءت ضريبة أول محاولةٍ شعبية عفوية حديثة (من خلال بدايات ثورة الربيع العربي) لتحقيق حلم أن يكون عندنا بلد نسعد أن نعيش فيه، جاءت ضريبتها شديدة القسوة والدموية.

ربما يكون مرد ذلك إلى ترجرج القلم بيد مقتسمي ورثة الرجل المريض على طاولة "سايكس-بيكو"، والتي رسمت حدوداً اصطناعية (غير عضوية) حول شعوب ليست متجانسة ثقافياً بالدرجة الكافية. ويقسم باحثون دول سايكس-بيكو إلى دول ذات حدود طبيعية متجذرة تاريخياً، كمصر مثلاً، وأخرى ذات حدود اصطناعية.

ويغلب على الدول ذات الحدود الطبيعية التجانس الاجتماعي العالي، والتلاصق الشعبي المتين، والذي يبقيها متلاحمة في وجه الأزمات.

كما يعمل إرثها الثقافي التراكمي مرجعاً دائماً وثابتاً يعمل بمثابة البوصلة العليا التي تجمع أبناءها حولها، وتوجههم بتوجهها، فتجد، مثلاً، أن كل مصري يعتنق الرمز المعنوي: أن (مصر أم الدنيا)، وأنها توجب على أي حاكم يريد أن يحكمها أن يكون عظيماً ويعاملها وأبناءها بما تستحق، لأنها بذاتها عظيمة: بإرثها الثقافي الحضاري المتراكم تاريخياً. لذا، لا تجد من المستغرب أن يكون الشخص الذي قطع صحاري محرقة، وعبر وهاداً وودياناً، ليشكو حاكم البلاد الجديد، لدى من نصبه، لجرم أنه أذله، لا تستغرب أن يكون مصرياً. وهذه العوامل نفسها هي التي ضمنت سرعة نجاح ثورة يناير.

وعلى الرغم من الارتدادات والمنعطفات التي حصلت بعدها، إلا أن أمراً واحداً مجمعاً عليه ضمنياً من شعبها: ستبقى تلك البوصلة بمثابة الرقيب العتيد الذي سيكتب في التاريخ حكمه النهائي حول نجاح من يحكمها أو فشله، بحكم باختبار كونه ذاك القوي الأمين المرتجى للحفاظ على إرثها.

أما سورية، فوضعها مختلف. فمن جهة الحدود، يمكن القول إنها شبه طبيعية، بمعنى أن سورية الحديثة جزء من سورية الكبرى أو سورية الطبيعية (أو بلاد الشام كما في السياق التاريخي). وبذلك، هي تملك مقومات الدولة العضوية، من ناحية تاريخها وإرثها الحضاري، إلا أن هذا الإرث غير تراكمي، فتحس أن هناك انقطاعاً بين الثقافات الموروثة عن الحضارات التي مرّت على تاريخ البلد، وأن كل حضارة مرت على البلد ربما حلت محل الثقافة السابقة عند إحدى المكونات الاجتماعية، وبقيت بحضور أقوى عند مكون اجتماعي آخر، ما شكل لوحة غير متسقة، من حيث المبادئ والقيم الثقافية المشتركة.

وهنا، لا نتكلم فقط عن اختلاف الأديان والطوائف، فليست هذه المشكلة الأساسية، إنما الحديث عن القيم الثقافية عند المجتمع ككل، باختلاف طوائفه وأعراقه وأديانه. مثلاً "التعايش" قيمة ثقافية اجتماعية، يمكن أن تكون ثابتة ومتراكمة تاريخياً، ما يعزز تجذرها في إرث البلد الثقافي، على الرغم من اختلاف ما قد يمر على البلد من حضارات وأديان.

كل هذه مظاهر لتحدي انقطاع الإرث الثقافي الاجتماعي، التحدي الذي يواجهه كل من انفعل بالقضية السورية، مؤثراً أو متأثراً، ويتمثل بالحيرة في الإجابة عن التالي: أي طرف خيط سأكمله؟ فبدلاً عن أن يكون هناك طرف خيط واحد وواضح، نمسك به جميعاً، كعائلة واحدة: "سورية"، والذي من المفترض أن يحيط بكل الخيوط الأخرى الجزئية (الدينية والعرقية والطوائف)، كما الحال في مصر مثلاً، نجد عندنا أن هذه الثقافة المجتمعية (والتي تعبر عن الوطن) متشعبة لخيوط بحسب المكون الاجتماعي، وأن كل مكون مفترض عليه أن يمسك بطرف الخيط الذي ينتمي إليه.

ولذا، نحن، كشعب، غير مجتمعين كعائلة تحت سقف الوطن. فلكل سقف، ولكل عائلة. وتبقى جهود إعلاء سقف هذا الوطن، ليشمل الجميع، ومحاولة ربط كل خيوط المكونات الاجتماعية ببعضها، في شبكة متصلة، فردية ومتواضعة، وفي كل الأحوال بدأت بالتلاشي. من هنا، كان الموقف الدولي الموحد من سورية تحدياً صعباً ومعقداً، وعلى الرغم من التقصير الدولي، المعيب وغير المبرر، تجاه الجرائم التي حدثت في البلد، إلا أن الحقيقة أن ما كرس ضعف المواقف الدولية هو هذه الصورة الداخلية الفسيفسائية، المنقسمة وغير المتوافقة.

حتى نداء "الشعب السوري ما بينذل"، على بساطته وبداهة عظمة قيمته، والذي كان الصيحة الأولى في الثورة السورية، شعار غير متوافق عليه، فبعضهم يرى أن خضوعه لقيود سلطة الأسد، مهما استحكمت، ليس ذلاً، بل هو "ولاء للقائد"، وآخرون يرون أن "بعض الشعب بيستاهل الذل وخرجه"، وأخيراً، للأسف، هناك من يرون، ولو قلة، أن خضوعهم لسلطة التطرف الوحشي، لداعش مثلاً، ليس ذلاً، وإنما "مبايعةً لأمير المؤمنين، وإنفاذاً لشرع الله"!

نحتاج إذا ما أردنا أن ننهض بوطننا أن نؤمن، أولاً، أنه "يستحق" - الإيمان الذي بدأ يتلاشى ويترك فراغاً يسدّه اليأس، ومحاولة استعارة أي جنسية أخرى. ونحتاج، ثانياً، أن نؤمن أنه يحمل إرثاً تاريخياً وحضارياً مشرفاً. ونحتاج من العقلاء والنخبة المثقفة، خصوصاً، أن ينبروا لمهمة ترميم تلك الطبقة الثقافية وإعادة وصلها بالإرث الثقافي التاريخي الحضاري، بتعزيز وإعادة إحياء المبادئ والقيم والثقافة والفنون والتراث، وإعادة موضعتها بحيث تكون مجردة بذاتها وفوقية على الطبقات الجزئية الأخرى لمكونات المجتمع.

فبدل أن يكون الوطن عبارة عن طبقات متصارعة وكل طبقة تشكل مكوناً دينياً أو طائفياً أو عرقياً، وتتجزأ عنها طبقة جزئية تحمل مبادئها التي تؤمن بها، وثقافتها المحلية، تعلو طبقة ثقافية مشتركة واحدة، لها جذور في كل من تلك الطبقات الجزئية، الممثلة لكل مكون، وتشكل نقطة التقاء الجميع. عندها فقط لن يختزل الوطن بإحدى المكونات، أو أحد الأشخاص، ولن يكون تاريخه رهناً بجنون ونزوات حكامه.

وعندها فقط سنستمد من إرثنا الثقافي قبساً نهتدي به، لنعود لمسيرة الحضارة. وعندها فقط سنكون مجمعين على تعريف الوطن، مجتمعين تحت سقفه الذي يجب أن يعلو عالياً جداً، كيما يسطيع أن يسع الجميع، الجميع فيما عدا من سيحاول أن يهدمه أو يطأه بقدمه أو يوطيه ليناسب حجم بعض الأقزام الطارئين على تاريخ الوطن، وكيما يستطيع أن يكون مرتعاً ملائماً لقامات عظيمة، لأجيال قادمة تستطيع أن تولد في سمائه، لتعلو به وتعليه.

avata
avata
منال ريس (سورية)
منال ريس (سورية)