الثورة والاستعصاء الثوري في سورية (1-2)

الثورة والاستعصاء الثوري في سورية (1-2)

21 ابريل 2014

آلاف السوريين يتظاهرون في حماة 29 يوليو 2011 (أ.ف.ب)

+ الخط -

الثورة السورية في مأزق؟ لا شك في ذلك، وهذا ما فرض نشوء استعصاءٍ، يدفع الأمور إلى صراعٍ دمويٍّ مدمرّ، من دون أفق كما يبدو. ربما هذا ما كانت تريد الدول "الخارجية" (الغربية والشرقية) الوصول إليه، لكي يظهر فشل الثورة، لكن، أيضاً، لكي يزداد الدمار، كما يريد بعضها، وأقصد الإمبريالية الأميركية.
ما أوصل إلى ذلك عنصران، الأول: نجاح سياسة السلطة بإظهار الثورة كحراك "سنيّ" (وإخواني يريد الانتقام مما حدث سنة 1980 في الصراع بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين)، من خلال سياسات قوى معارضة، ودول إقليمية ودولية، كانت تريد أن تظهر الثورة كذلك، لأن قوى المعارضة تلك كانت تراهن على تدخل "خارجي". وبالتالي، كانت في غنىً عن الأقليات (خصوصاً أَنها تحمل أحقاداً ضدها)، ولأن الدول الإقليمية كانت تريد إفشال الثورة، وتحويلها إلى صراع طائفي (أو يبدو كذلك)، والقوى الإمبريالية التي تريد التدمير والتفكيك، وليس انتصار الثورة. وكان هدف السلطة من ذلك ضمان تماسك "الأقليات" خلفها، خصوصاً العلويين، نتيجة أنها شكلت قوتها القمعية الصلبة منهم بالتحديد. وبالتالي، باتت تستخدمهم أداة قمع لحماية سلطتها (بمعزل عن أي منظور طائفي، حيث كانت تستخدم الطائفة، ولم يكن لديها أيديولوجية طائفية). فاستطاعت السلطة أن تؤسس لنشوء شرخ مجتمعي مهم، ساعدها على التماسك طويلاً. لكن، ما ساعدها كذلك هو الدعم المباشر من إيران وأدواتها (حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس)، والتسليح المستمر والخبرات من روسيا، وكذلك الحماية الدولية لها (على الرغم من أن الدول الإمبريالية لم تكن ترغب في التدخل، سوى ربما فرنسا وتركيا). لهذا، حينما استهلكت قواها، جرى إمدادها بالسلاح من روسيا وإيران، والمقاتلين من حزب الله، والطائفيين العراقيين التابعين لإيران، وإيران ذاتها، وقبل ذلك، بالخبرات والتدريب والإشراف.
ذلك كله سمح للسلطة في سورية بأن تبقى متماسكة، على الرغم من خسرانها عشرات آلاف الجنود ورجال الأمن من "البنية الصلبة" (الرقم الرسمي 40 ألفا)، وكذلك الشبّيحة. وعلى الرغم من عجزها عن تحريك معظم الجيش الذي بات يعيش حالة احتقان هائلة، أصبحت مهيأة للقيام بانشقاقات كبيرة، ما فرض وضعه في معسكرات مغلقة. وقد ظهر، في لحظةٍ، أن السلطة باتت تفقد السيطرة، لأنه لم تعد لديها قوى كافية للدفاع، الأمر الذي فرض دخول حزب الله وكتائب أبو الفضل والحرس الثوري بأعداد كبيرة، وبشكل علني. لتتماسك من جديد، وتبدأ سياسة استرجاع المناطق التي اضطرت للانسحاب منها. ولا شك في أن نجاح السلطة في الحفاظ على تماسك "البنية الصلبة" (أي كبار الضباط) هو الذي سمح بألا تسقط، لأنه سمح بعدم انشقاقها وخروج "كبار" من البنية الصلبة لقيادة "تحوّل ديمقراطي"، كما حدث في البلدان الأخرى. وكان هدف الفئة الحاكمة الحفاظ على هذا التماسك، ونجحت فيه، بالضبط نتيجة "الجائزة" التي قدمتها بعض أطراف المعارضة (الإخوان وإعلان دمشق) وأيضاً، بعض الدول الإقليمية (السعودية خصوصاً). ولهذا، مازالت السلطة قائمة، وهي التي دعيت إلى مؤتمر جنيف 2 وشاركت فيه.


العنصر الثاني: تحويل الثورة إلى عمل مسلح، على أمل حصول دعم "دولي" (كما كانت تروج المعارضة الخارجية)، أو نتيجة طبيعية لوحشية السلطة. وإذا كان الميل الطبيعي للتسلح، من أجل حماية التظاهرات، قد فرض تصعيد العنف السلطوي، واستغلال ذلك لممارسة أقصى الوحشية، فقد أفضت زيادة الوحشية إلى تسليح أعلى للثورة. المهم، هنا، أن التدمير الذي مارسته السلطة ضد مدن، ومناطق، كانت فاعلة جداً في الحراك الشعبي، قد فرض كذلك تراجع النشاط الشعبي، واختفاء التظاهرات تقريباً، واهتمام الناشطين "السلميين" باللاجئين الذين باتوا من دون مأوى، أو إعالة، بعد أن كان قسم أساسي منهم قد حمل السلاح. بالتالي، بات العمل المسلح الشكل الوحيد تقريباً. لكن العمل المسلح يفرض الحاجة إلى التسلح والمال، وبهذا، كان محتاجاً إلى التواصل مع معارضة الخارج (التي تمتلك المال، خصوصاً الإخوان المسلمين)، ومع دول تقول إنها تدعم الثورة (قطر والسعودية، وفرنسا وتركيا خصوصاً).
ابتزاز خارجي
هنا، خضع العمل المسلح لابتزاز بعض القوى المعارضة، ولابتزاز دول إقليمية، الأمر الذي فرض "الأسلمة" في تسمية الكتائب، لكنه ربط وضع الكتائب بكليته بها، وبالتالي بسياساتها. ولقد كانت ليس في وارد إسقاط النظام (كما السعودية)، أو تريد إسقاطه، لكن، في إطار قيادة تابعة لها، كان المجلس الوطني خير ممثل لذلك (وهنا قطر وتركيا وفرنسا). وإذا كانت العلاقة مع "الخارج" تضر شعبياً، وكذلك الأسلمة التي كانت تنجح سياسة السلطة، فقد خضع التسليح لسياسةٍ، تقوم ليس على حسم الصراع من خلال الدعم الكافي، بل على إعطاء "حقن"، لكي يستمر الصراع. فقد أراد بعضها أن تفشل الثورة، وتتحوّل إلى صراع طائفي، يُظهر أن التمرّد على الحاكم لا يؤدي سوى إلى الدمار. ولهذا، أرادت أن تكون الثورة السورية مقبرة الثورات العربية، والشكل الأفظع للوحشية التي ترعب الشعوب لكي لا تتمرّد.
بالتالي، ظل التسلح ضعيفاً، ولا يكفي لمواجهة آلة السلطة التي تحوي كل أنواع الأسلحة، وتتفوق بقوة نيران هائلة، وبالطائرات والصواريخ بعيدة وقريبة المدى، وبالأسلحة الكيماوية. ولهذا، بدا أن الدفع نحو "التسلح السريع"، والتحريض على استخدام السلاح، فخ ليس أكثر، ووسيلة لحرف الثورة عن طابعها الشعبي و"سلميتها" (على الرغم من أن هذا التحديد ليس دقيقاً)، وتقودها إلى متاهاتٍ، تودي بها إلى الفشل. فالتسلح يحتاج إلى المال الوفير والسلاح الكثير، وبالتالي، إلى سند "خارجي". وحين تسلحت الثورة، وتخلت عن طابعها الشعبي (كان ممكناً الحفاظ عليه، مع التسلح ضمن سياسة مدروسة)، باتت في مأزق عميق. وزاد في المشكلة أن المسلحين لم تكن لديهم خبرات الحرب التي قرروا خوضها، وأن من انشقوا من كبار الضباط حُجز في تركيا والأردن، ولم يسمح لكثيرين منهم بالانخراط في الثورة، وتقديم الخبرة الضرورية. وأن تنافس أطراف المعارضة عمل على شرذمة الكتائب المسلحة، من خلال التنافس على "شراء الذمم"، أو الولاء، أو استثارة النوازع العائلية والمناطقية والقبلية، وحتى الطائفية. وهو ما شتت الكتائب، وأبقاها ذات طابع مناطقي، ودفاعي، وفتح المجال لدخول العصابات، وأنجح اختراقات السلطة. فقد أصبحت الثورة فوضى، بكل معنى الكلمة، خصوصاً بعد أن فرض المسلحون سلطتهم، بديلاً عن سلطة الشعب، وباتوا يمارسون السلطة في مناطق سيطرتهم، بدل قتال قوات السلطة. ومن ثم بات الجذب يسير نحو مركزة السيطرة لدى كتائب أصولية، نتيجة امتلاكها المال وبعض السلاح (كان يأتي من الخارج خصيصاً لها في الغالب). وأيضاً ترسّخ وجود تنظيمات، مثل "دولة العراق والشام" وجبهة النصرة وأحرار الشام، وهي امتداد لتنظيم القاعدة، وبات بعضها يحوّل الصراع إلى صراع في صف الثورة، حيث يفرض سلطته القروسطية، المتخلفة الأصولية الشمولية، على الشعب (داعش). وحيث اندفعت قوى أصولية أخرى لتشكيل "جيش الإسلام"، من أجل إقامة "دولة الإسلام".
تفكك وفوضى
التفكك والفوضى هما السمتان الأساسيتان، الآن، في الثورة، إضافة إلى انسداد الأفق، نتيجة غياب الهدف (إسقاط النظام، أو قيام دولة إسلامية)، وغياب الاستراتيجية التي تشير إلى كيفية إسقاط النظام. فإذا كانت السلطة قد ضعفت، وكانت في بعض الأوقات قابلةً للسقوط، فإن الوضع الآن مختلف، فلم تستغل الثورة ضعف السلطة لإسقاطها (بداية سنة 2013 إلى معركة القصير ودخول إيران وحزب الله) بالضبط نتيجة غياب الرؤية لكيفية إسقاطها، وغياب الاستراتيجية العسكرية المناسبة، لمواجهة قوة متفوقة بقوة النيران. على العكس من ذلك، جرى اتباع استراتيجية، تخدم تماسك السلطة، لأنها تظهر تفوقها، وهي الاستراتيجية التي سُميت: تحرير المدن. حيث كان يضع المسلحون ذاتهم تحت سطوة قوة نيران العدو، ما كان يفضي إلى تهجير السكان، وتدمير المدن والمناطق، حتى وإنْ ظلت بيد الكتائب المسلحة، فلم يفد الأمر شيئاً، ما دامت السلطة متماسكة، ولم يجر تدمير بنيتها الصلبة (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والأمن والشبيحة). وما دام ليس هناك توحّد للكتائب، وليست هناك بلورة لطريقة يمكن أن تسقط السلطة فيها. بمعنى أننا فقدنا الزخم الشعبي، من دون أن تكون لدينا "استراتيجية حرب" واضحة، ومن دون أن يكون ممكناً تشكيل جيش موحد قادر على الحرب.


إذن، لم يحدث كسر في السلطة، لكي يبدأ "التحوّل الديمقراطي"، كما حدث في تونس ومصر خصوصاً، ولم تحدث الضغوط الخارجية (السعودية والأميركية والروسية والأوروبية)، لكي يرحل الرئيس، كما حدث في اليمن، ولا تحقق التدخل العسكري، كما حدث في ليبيا. ولا شك في أن المراهنات الأولى لدى الشعب بنيت على الشكل التونسي المصري، وبنت مراهنات أطراف في المعارضة (ما بات يسمى المجلس الوطني) على الشكل الليبي، وما طرحه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بداية سنة 2012 هو أن ترعى روسيا مرحلة انتقالية، كما حدث في اليمن حينها. لكن سياق الثورة وتداخلاتها، واللعب الإقليمي والدولي، والتشبث الشديد للسلطة، ومن ثم نجاح سياستها لأن تبقى متماسكة، أفشل إمكانية انشقاقها (إلى الآن على الأقل). وواضح (أو ما يجب أن يكون واضحاً) أن التدخل العسكري "الغربي" ليس ممكناً، بل مستحيل. وظهر ذلك واضحاً في التهديد الأميركي الأخير، المتعلق بالأسلحة الكيماوية. وأصبح واضحاً كذلك أن "الحل السياسي" هو المطروح بتوافق أميركي روسي، وبدعم أميركي للدور الروسي، على أساس مبادئ جنيف التي أقرتها مجموعة العمل حول سورية في 30 يونيو/ حزيران 2012، والتي باتت تحظى برعاية دولية، بعد أن جرى تضمينها بقرار مجلس الأمن 2118، الخاص بالأسلحة الكيماوية السورية. ولا شك في أن إدارة أوباما حاسمة في أن الحل سياسي، وأن روسيا هي الراعية له بدعمها، وأن مبادئ جنيف كل الأمر.
إذن، ستكون الموازنة، الآن، بين الحل العسكري، سواء من السلطة أو من الثورة، أو الحل السياسي عبر آلية جنيف. وكما أشرنا، فإن الوضع يعاني استعصاءً، لا يؤشر إلى إمكانية لانتصار عسكري، الآن على الأقل، ووفق الوضع الراهن.