الساروت وهجاء المثقفين

الساروت وهجاء المثقفين

20 يونيو 2019
+ الخط -
رثاء عبد الباسط الساروت عَبَرته نعرةٌ تنال من الثقافة والمثقفين. من مقارنته السلبية الضدية بـ"المثَقَفَتية"، إلى تِرداد صفاته الحميدة، من نوع "بساطته"، "عفويته الأخّاذة"، انعدام علاقته بالعلم والثقافة. ثم مع قليلٍ من التمويه، رفعه عالياً بصفته "صانعاً للقيم"، من دون الحاجة إلى "معرفةٍ واسعة"، أو "علم كبير" أو "تعليم"، أو لـ"النظريات الفلسفية والعلمية والأخلاقية". ومكْمن حريته الأساسي أنه لم يكن "مثلنا" (أي مثل أمثال المثقف الراثي)، إنما كان "حرّاً من صراع الأفكار العقيمة"، و"نظريات الكتب". طبعاً لم يكن الحزن على الشهيد ينطوي كله على عباراتٍ أو جملٍ من ذاك القبيل. ولكن أيضا لم تخل مقالاتٌ وبوستات شبكية عديدة من هذه النعرة. نعرة وجدت سبيلها إلى الذيوع بصراحة، أو بأقل منها.
وإذا ما قارنتَ بين رثاء الساروت ورثاء سوري آخر معروف، يتبيّن لكَ الفرق. الفيلسوف الطيب تيزيني، الحمصي، أيضا، مثل الساروت، رحلَ قبله بأقل من شهر .. كيف كان عزاؤهما؟ سَيْلا جارفاً من الحزن على الساروت، ورفعه بسرعة قياسية إلى مرتبة الأيقونة. سبقه شحوب توديع تيزيني، والاختلاف على نصيبه من الحزن على رحيله؛ بل رافقته رسالة صديقه وزميله يوم وفاته، والتي لا تشبه الرثاء، إنما هي إلى الهجاء أقرب، حيث كتبَ: "لم أُعجب بأية صفة من صفاته (أي تيزيني)، ولم أرض عن أي سلوكٍ من سلوكاته، ولم أستحسن أياً من مؤلفاته". وذلك بعد مقدمة يؤكّد فيها أنه يعرفه منذ العام 1970، وانه زامَله وعرفه في حياته العامة والخاصة وقرأ جلّ ما كتبه.. إلخ.
المهم في الموضوع أن العزاءين، الأول والثاني، يوحيان إليك أن ثمّة مناخا معاديا للمثقفين، لم تصنعه دوائر قرار، ولا ساهمت به أقلامٌ "مأجورة"، ولا انخرط في ثنياته أفراد "غير مثقفين". بالعكس، كلام الاثنين صدر عن مثقفين، معروفين وغير معروفين. ولكنهم أفرادٌ يتعاطون بالثقافة أو يهتمون بها، على درجات متفاوِتة ومتقارِبة في آن.
خلف هذا التمييز، هل يقف طول عمر تيزيني (85 سنة)، وصغر عمر الساروت (27
سنة)، حين رحيلهما؟ إذ نأسف على الشباب، ونستكثر على طويلي العمر سنواتهم، والذين ماتوا ميتة ربهم، في فراش المرض الأخير، لا على الجبهات؟ فيكون الحزن عليهم تصنيفياً، عازلاً هذا، ومنصِّبا ذاك؟ أم أن الموضوع هو أن الساروت حمل السلاح، وتيزيني لم يحمله؟ والاثنان بقيا في "الداخل"، واحد يواجه بالسلاح، والثاني يعجز عنه؟ لكبر عمره أو لخياراته الأخرى؟
أحدهم أخذَ على تيزيني "بقاءه في الداخل"، ولهذا لن يحزن عليه. على أساس أن الباقين في الداخل كلهم موالون للنظام. ولا قيمة من بينهم إلا لمن يحمل السلاح بوجهه. وقد تكون هذه الفكرة مسنودة بشعوبيةٍ متثاقِلَة، أساسها طَبقي، ترى في الساروت ابن العشوائيات، وفي تيزيني ابن الصالونات؟
حب السلاح وكراهية الثقافة. لا يمكن إنكار أن الذين تحمّسوا بشدة لرثاء الساروت هم من الصف الذي يؤيد حمل السلاح ضد النظام. وفي هذه الحالة، السؤال الساذج هو: إذا كنتم، كمثقفين، تكرهون المثقفين، وتمدحون الساروت كل هذا المديح لأنه، من بين أسباب أخرى لكراهيتكم هذه، حمله السلاح ضد النظام بعدما اضطر إلى ذلك، واستمراره به حتى الموت.. فلماذا لا تلتحقون بالميدان، وتتجاوبون مع الأيقونة التي رفعتم إلى مصافّ القديسين، وتحملون بدوركم السلاح انسجاما مع أنفسكم، ومع ما تقولون وتكتبون؟ هذا ليس تحدّيا، إنما دعوة إلى الانسجام مع النفس، وإلا فسوف يترسّخ في الأذهان تقسيم العمل في الثورة السورية؛ من جهة، بين الذي يحمل السلاح، وهو غير مثقفٍ، شعبي، فقير، ولكنه محبوبٌ من المثقفين. ومن جهة أخرى، بين هذا وبين الذي لا يحمل السلاح، ولكنه يمتدح حامليه، ويساهم بتحويلهم إلى أيقوناتٍ، ويكون عادة من المثقفين الذين أتيحت لهم فرص التفكير والكتابة؟
يمكن تفهّم سياقات وظروف كثيرة حالت دون التماهي العملي مع الساروت، والمشي على خطاه. ولكن يبقى سؤال، تطرحه تلك المرثيات: لماذا يكره المثقفون المثقفين؟ وهنا أقصد مثقفي المعارضة لنظام بشار. لأنهم هم الغالبون. إذ تكاد لا تجد مثقفين موالين لهذا النظام.
لماذا إذن؟ هل هي من طبائع المثقفين، شديدة الفردية والنرجسية، أنهم لا يروْن غير أنفسهم؟ غير مستعدّين للاعتراف بأي مثقفٍ آخر؟ دائماً يتكلمون عن المثقفين، غالباً كأنهم "مزعومون". يرذلونهم بلا هوادة. أو يتجاهلونهم. الفيلسوف الذي هجا تيزيني، يوم رحيله، لم
 يكن يعبِّر عن انعدام لياقته الإنسانية وحسب. إنما عن سلوكٍ متجذِّر وسط المثقفين. كراهية بعضهم بعضا، أو تجاهل بعضهم بعضا في أفضل حالات الدماثة والتهذيب.
حسناً. ربما لا يكون المثقف على هذه الدرجة من النرجسية، خصوصاً إذا لم يكن "نجما"، ومشهوراً. إنما كراهيته المثقفين والثقافة قد تكون عائدة إلى هامشية المثقف نفسه، فكل أكاليل الغار على جبينه لا تقدّم ولا تؤخِّر بشيء في مسار الحدث، أو التغيير. وهذه نقيصةٌ ملموسة، يتحسَّر عليها المثقف، ويدور حولها، بصيغ موارِبة أحيانا. و"يتذكّر" الزمن "الجميل"، أو "العصر الذهبي"؛ ويجترّ أوهام الأدوار التي لعبها المثقف في الأزمنة الغابرة. مع أنه، مع تدقيقٍ قليل، تجد أن هذا "الدور" للمثقف كان مجرّد واجهة ووجاهة؛ تلاعب به السياسيون، الثوريون خصوصاً، فأعطوا للمثقف الحظوة والطلّة البهية وامتيازاتٍ.. إلخ، في مقابل تنظير المثقف لسلطتهم، المعارِضة. أي كانوا مثل "وعاظ السلاطين" الذين كتب عنهم العراقي علي الوردي. مع فرق أنهم، في حالتنا، كانوا مدنيين، لا شيوخا ولا مفْتين، وسلاطينهم مرفوعين على عروش المعارضة.
الدور، الوظيفة، إلى ما هنالك من وصفٍ للأفعال التي تنتظر المثقف. يدور حولها كاتباً منظِّراً مستشهداً، ولكنه لا يدخل في صلبها. لماذا؟ لأن أفكاره ليست مجرَّبة في التغيير، لأنه لا تُتاح له سياقاتٌ ممكنة للتغيير الذي تنشده كتاباته. بل: هل هذه الكتابات منذورةٌ للتغيير؟ أم إن هدف الكتابة تبدَّل، بدوره، أو تعدَّل؟ المثقفون يكرهون المثقفين، لأنهم، في الحقيقة، لا يتأملون من كتاباتهم إلا الحساب والمحاسبة، فوق أنها، أي الكتابة، تبْخل عليهم بكل شيء، ما عدا نعمة "الاعتراف" العزيزة التي لا تهبط إلا على المحظوظين من بينهم، فمن أين لهم ساعتئذ أن لا يكرهوا أنفسهم، ولا يكرهوا بعضهم؟

دلالات