بين تنحّي القيادة الفلسطينية وعدم تنحّيها

بين تنحّي القيادة الفلسطينية وعدم تنحّيها

15 يونيو 2019
+ الخط -
ناقشت مقالة الأكاديمي إبراهيم فريحات، "ليس على القيادة الفلسطينية أن تتنحّى الآن" (العربي الجديد، 10/6/2019)، مقالة الكاتب أسامة أبو ارشيد "أما آن للقيادة الفلسطينية أن تتنحّى؟" (العربي الجديد، 31/5/2019). وقد تضمنت المقالتان نقاطاً مهمةً تفرض علينا التدقيق بها، أمل أن يساهم النقاش في طيّ صفحة الماضي، بخيباته وانتكاساته العديدة، وتسطير بديل واقعي وحقيقي، قادر على حمل أعباء القضية الفلسطينية، والمضيّ بها نحو استعادة جميع الحقوق المستلبة.
أتفق مع فريحات بأن تنحّي القيادة الفلسطينية فقط أمر غير كاف، وإن اختلفت معه في مواضيع أخرى. تسوق مقالة إبراهيم فريحات، بكثير من الحنكة، مجموعة من أسباب العجز الراهن التي لا يمكن اختزالها بفساد القيادة المتنفذة ورداءتها فقط، ويعتقد أن المطالبة اليوم بتنحّي القيادة هي انحراف عن تناقضنا الرئيسي مع "صفقة القرن"، ما يحمل في طياته آثاراً مدمرة على المشروع الفلسطيني. كما لا يمكن الجزم بنتائج هذا التنحّي، لكونه سوف يفتح المجال أمام لاعبين إقليميين ودوليين عديدين. ومن ثم يعرض مجموعة من نجاحات السياسة الفلسطينية، المعقولة وفق الكاتب، التي تتصدّى للصفقة، ويطالب بتكثيف استراتيجية مواجهة الصفقة، وتقويم وتطوير هذه الاستراتيجية، بالتعاون والتنسيق مع القيادة الفلسطينية، عبر اقتراحات قيّمة ومهمة، بدلاً من الدخول في معارك جانبية، كالمطالبة بتنحي القيادة، من دون أن يغفل الإشارة إلى ضرورة المضيّ في معركة إصلاح النظام السياسي، وإيجاد قيادة منتخبة وخاضعة للمساءلة في اليوم الذي يلي إعلان وفاة صفقة القرن، غير البعيد وفق رؤيته!
من ناحية أخرى، لا يمكنني الجزم بدقة، عن ماهية القيادة الفلسطينية التي يطالبها أسامة أبو
ارشيد بالتنحّي، فهل المقصود شخص محمود عباس فقط؟ أم مجمل قيادات السلطة الوطنية ومنظمة التحرير والفصائل، وإن كنت ميالاً إلى الأخيرة، لأن التعبير عام وفضفاض، ويحمل مثل هذه التأويلات. وفي كل الأحوال، يمكن لأبو ارشيد توضيح هذه الجزئية إن أراد. بينما سوف أتعامل مع المصطلح وفق آرائي الشخصية، من دون أن أحمّل مقالته هذه الأفكار. أرى أننا مطالبون بتغيير مجمل القيادات الفلسطينية، ومجمل البيئة والعوامل التي أفرزتهم، وساهمت في بقائهم حتى اللحظة، على الرغم من كل الأخطاء والمصائب التي ألقوها على عاتق الشعب والقضية الفلسطينية، فالتغيير الذي ننشده شامل وجذري، ويجب أن يتعدّى تغيير القيادة إلى تغيير البرنامج والنهج. كما يجب أن يفرض واقعاً اجتماعياً وسياسياً جديداً، يتيح لأي فلسطيني الحق في التعبير عن رأيه، بل في التنظيم السياسي أيضاً، فقد سئمنا احتكار القضية والشرعية الفلسطينية بيد مجموعة من الأشخاص والفصائل التي تشرّع لنفسها بيع الحقوق الفلسطينية في أي بازار سياسي دولي أو إقليمي، من دون أن يعني ذلك الانتقاص من دور أي منهم ومساهمته في مسار النضال الفلسطيني تاريخياً، فلهم ولتاريخهم "المشرّف منه" كل التعظيم والاحترام والانحناء أيضاً. أما حاضراً ومستقبلاً، فهم كغيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني، لهم الحقوق السياسية نفسها، وعرضة للمساءلة القانونية والسياسية نفسها، التي قد تصل إلى تنحيتهم جانباً.
لذا، كما هو واضح، يجب أن يشمل التغيير المنشود البرنامج الوطني، أي البرنامج المرحلي، ومن ثم حلّ الدولتين الذي لا يلبي الحد الأدنى من حقوقنا الوطنية. وعليه، يغدو مشروع القانون الأميركي الذي يجري تحضيره كي يقدم للكونغرس، كما أورد إبراهيم فريحات في مقالته، أقل أهمية مما أبدى. أما في ما يخص التوقيت الأنسب والأنجع من أجل خوض معركة التغيير المنشود فلسطينياً، فالأمر متوقف على تحديد الأولويات الراهنة والمعركة الرئيسية، حسب وصف فريحات، وهو ما يحتم التدقيق بطبيعة القضية الفلسطينية عموماً، وبالمعطيات المتاحة بين أيدينا اليوم. فمن ناحية، لا بدّ من التذكير بأن التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال الصهيوني، وداعميه منذ النكبة، وعليه فإن صفقة القرن اليوم هي إحدى تجليات هذا الصراع 
فقط، أي لا يمكن اختزال تناقضنا الرئيسي اليوم بها فقط، لكونها عنصراً ضمن عناصر عديدة يكرّسها الاحتلال وداعموه، وخصوصاً الولايات المتحدة، من أجل تصفية القضية، وإحلال واقع جديد لا مكان فيه لحقوقنا التاريخية المستلبة. ومن ناحية أخرى، لصفقة القرن بُعدان؛ إعلامي أو سياسي وآخر ميداني، وهو ما جاء عليه كتاب ومفكرون عديدون منذ اليوم الأول لطرحها إعلامياً، بل يمكن القول إن الجزء الأكبر من أبناء الشعب الفلسطيني ومؤيديه يعبرون وبكل وضوح عن ذلك. وعليه، قد تكون المماطلة الأميركية في الإعلان عن الصفقة تعبيراً عن قرب هزيمة الصفقة إعلامياً أو سياسياً، من دون أن يعني ذلك هزيمتها ميدانياً. فكما نعلم، يعمل الاحتلال وداعموه منذ مدة طويلة، على تقويض الحقوق الفلسطينية وتصفيتها، عبر ممارسات وإجراءات ملموسة، ذكرت غالبيتها مقالة أبو ارشيد، من المستوطنات وجدار الفصل العنصري وحصار قطاع غزة؛ إلى سنّ الكنيست بعض القوانين العنصرية والإجرامية؛ فضلاً عن حصار الحياة الفلسطينية وتقويضها داخل مدينة القدس، والمحاولة الأميركية لخنق وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وإنهاء عملها أو تحجيمه بالحدّ الأدنى إلى آخر القائمة.
يدفعنا ذلك إلى الاعتقاد بأننا في خضمّ معركة طويلة مع الاحتلال وداعميه، لا يمكن تقسيمها إلى مراحل مصطنعة، فالصفقة الأميركية الحقيقية يتم تجسيدها على الأرض بعيداً عن مراسم الإعلان الرسمي، وربما الاحتفالي، وهي مجرّد تجسيد لطبيعة الصراع مع الاحتلال وداعميه، ومن الخطأ اعتبارها مرحلةً يمكن أن تقطع مع ما بعدها. كما لا بدّ من التنويه بأن الصراع مع المتنفذين والمتحكمين بالقضية الفلسطينية اليوم، انطلاقاً من رؤية وطنية وجذرية شاملة، وبمنأى عن صراعات اللاهثين خلف السلطة، ينطلق من حشد الهمم والإمكانات في خدمة صراعنا الرئيسي. لذا لا أعتقد بصحة اعتبارها صراعاتٍ ثانوية تحرف مسار الصراع، وربما تدمره، بل هي خطوةٌ ملحةٌ من أجل تحرير إمكاناتنا وتوحيد نضال الشعب الفلسطيني أينما كان، واستعادة قدرتنا على الفعل البنّاء والمنظم والموجه، باتجاه أهدافنا الوطنية الكاملة التي قد تفرض تبنّي خيار دولة فلسطينية ديمقراطية وعلمانية واحدة على كامل التراب الفلسطيني؛ وعلى أنقاض الاحتلال والحركة الصهيونية ومؤسساتها، بعدما رأينا ولمسنا نتائج تحريف القضية وتزوير الصراع تحت مسمياتٍ عديدة كالبرنامج المرحلي؛ حل الدولتين؛ "أوسلو" أو اتفاقات السلام المشؤومة.