التنظير الاجتماعي في الميديا

التنظير الاجتماعي في الميديا

05 مارس 2017
+ الخط -
يمثل النقاش السعودي حول الفنّ (والترفيه)، هذه الأيام، مادّة جيدة للدراسة والبحث في أشكال التنظير الاجتماعيّ وممارساته، على الأخص ما يحدث منها في الصحافة وعلى "تويتر". قضية الفنّ موضوعٌ عابر من بين مواضيع عديدة، لكن التنظير الاجتماعي هو النشاط الأهم والمستمرّ، مهما اختلفت المواضيع في الميديا السعودية، لأسباب كثيرة، حتى أصبح هذا النشاط ممارسةً بديهية، وكرّس داخله مجموعة من الأساطير أو المقولات التي صارت تتردّد بصورة آلية، بوصفها حججاً دامغة، وهي، في أسوأ الأحوال، مغالطة واضحة، وفي أفضلها تصورات تقبل إعادة النظر. 

أول مسألة تحتاج إعادة نظر هي علاقة النخب (التي تمارس التنظير الاجتماعي)، بالمجتمع، فالصراع بين هذه النّخب في السعودية هو على تفسير الحدث الاجتماعي، أو "صناعة المعنى" لكل حدث اجتماعي، أكثر من كونه على صناعة الحدث الاجتماعي، فهو صراع يتبع الحَدَث الاجتماعي، وينشأ حول تفسيره وإضفاء المعنى عليه، ثم تسويق هذا المعنى بوصفه "الحقيقة الاجتماعية"، وهو ليس صراعاً بين النخب على تمثيل المجتمع بالمعنى السياسي، أو قيادته بالمعنى الاجتماعي، حيث لا تملك جميع النخب في السعودية أياً من مقوّمات الأمرين، بحكم موقعها وتكوينها الثانوي بالنسبة للسلطة السياسية، فهي لا تُشارك عملياً في صناعة الحدث عبر القرار السياسي، ولا في الدفع نحوه عبر الحراك الاجتماعي (كما يحدث في مجتمع ديموقراطي)، ودورها الحقيقي ينحصر في صناعة المعنى لأحداثٍ لم تقم بصناعتها، وتنافسها ينحصر في هذه النقطة، يتساوى، في هذا، الرموز الدينية والإعلامية، وبمشاركةٍ بسيطةٍ من السوسيولوجيين. يأتي هذا التنافس على صناعة المعنى بصيغة تقرير الحقائق الاجتماعية:
"المجتمع يرفض، المجتمع يقبل، المجتمع يريد، المجتمع مختطف، إلخ.."، لكن هذه التقريرات ألصق برغبات هذه النخب ومخاوفها ومواقفها، منها بما يريد ويرفض المجتمع. لهذا من السهل جداً التقاط التضارب والتناقض داخل الخطاب الواحد، لأنهُ يحاول أن يستعمل الحدث لتدعيم خطابهِ، أكثر من كونهِ يحاول فهم الحدث في سياقه. يقول الشيخ: "المجتمع يرفض الحفلات الغنائية"، ثم يقول أمام حفل غنائي شهده جمهور عريض: "ظهر الفساد في البر..". ويقول الكاتب الصحافي عندما تُلغى حفلةٌ غنائيةُ بلا أسبابٍ واضحة: "الـمُجتمع مختطف"، ثم يقول بعدها ببضعة أسابيع، عندما تزدحم حفلة أخرى بالجمهور: "المجتمع متعطّش للفن والحياة". قبل حقبة الترفيه بسنواتٍ طويلة، كان الصحافيّ يستدلّ على فشل الخطاب الصحوي بالاستهلاك القياسيّ، على مستوى العالم، لمحتوى يوتيوب الفني والغنائي في السعودية، وفي حقبة الترفيه، أصبح يتحدث عن "بدايات الوعي والانفتاح في المجتمع"، على أساس أن المجتمع كان ينتظر الهيئة الحكومية، لتنظم حفلاً في منشأة حكومية، ليتصالح مع الموسيقى والفنّ. كما أنهُ لا شيء مُنزه عن الاستخدام في هذا الصراع، فحتى موت الجنود على الجبهة عُرضة للاستخدام والتوظيف والاعتساف، من أجل صناعة المعنى المرغوب، عندما قال الشيخ "كيف تحتفلون وجنودنا يواجهون الموت على الجبهة؟".
كما أنه ما من وعي أو مسؤولية يمنعان الكاتب الصحافي من الوصول إلى أقصى درجات المبالغة، عندما يعيد تفسير التاريخ السعودي انطلاقاً من مسألة الفنّ! فيكتب سردية جديدة للتاريخ السعودي منذ حادثة جهيمان (اقتحام الحرم المكي في 1979) وحتى تنظيم داعش، باعتبارهِ ردّ فعلٍ ضد الفنون. وفي مبالغةٍ درامية غريبة، وقف الفنان السعودي الأشهر، محمد عبده، قبل أشهر على مسرح خليجي، ليقول "أرجو ألا يبقى فننا في المنفى". وفي المبالغة الدرامية نفسها، استُقبِلت أخبار حفلاته الجديدة في جدة والرياض باعتبارها عودة للفنّ من المنفى، من دون أن يتساءل أحدٌ عن معنى "المنفى" هنا، إذا كانت المسارح السعودية واظبت على احتضان حفلات عبده وسواه من الفنانين في جدة وأبها سنوياً حتى أعوام قليلة مضت، وجميع هذه الحفلات مُسجلة ومتوفرة على "يوتيوب"، وقد غابت بضعة أعوام بلا سببٍ مفهوم، وعادت بالطريقة نفسها بلا سببٍ مفهوم، لكن الحاجة إلى "صناعة المعنى"، واستخدامه في الصراع، تستولد الحديث عن المنفى، وهزيمة الصحوة وعودة الوعي، إلخ. كما أن إقبال السعوديين على السفر إلى الخارج أصبح يُستخدم دليلاً على رغبتهم في الفرار من البلاد التي تفتقر إلى الفن والترفيه، على الرغم من أن جميع مجتمعات الخليج، بما في ذلك الكويت والإمارات وقطر، التي لا تعاني قصوراً في حضور الفنون أو السينما أو الفعاليات العائلية المختلطة في مجتمعاتها، تتجه إلى السفر إلى الخارج في الصيف خصوصاً، وقد تكون علامةً على امتيازاتها المادية، أكثر من أيّ شيء آخر، وهي، على أية حالٍ، عادة جيّدة تدفع باتجاه الانفتاح وبناء ثقافة عالمية، لكنّ هجاء السفر إلى الخارج أصبح مقولةً تتردّد بداهة، وبها يُشار إليهِ بوصفهِ ممارسةً اجتماعيةً سلبية، ويجب أن تتغير.
ما سبق مجرّد أمثلةٍ على واحد من الاختلالات في التنظير الاجتماعي المستمر، ونموذجه هنا 
التنظير حول الفنّ والمجتمع. والخلاصة التي تخرج بها، بعد التأمل الطويل في هذا الصراع حول قضايا الفنّ والمرأة والاختلاط وهيئة الأمر بالمعروف وهيئة الترفيه، إلخ...، أن ما يحدث في المجتمع السعودي من تطوّر وتغير، أكثر تعقيداً وتركيباً من جميع التفسيرات التي تُسبغ على أفعاله وخياراته، كلما تسنّت له لحظةٌ نادرةٌ يُعبر فيها عن نفسه. وأن المجتمع لا ينتظر النظرية الاجتماعية، كما يرغب في تسويقها "الشيخ" و لا "الصحافي"، لتحدّد له خياراته أو تقوده في اتّجاه أحادي، فهو يأخذ خياراته في موضعٍ على أساسٍ ديني، وفي موضع آخر على أساسٍ دنيوي، منطلقاً من قاعدة مركبة وغير مُكتشفة، كما أنهُ، في مواضع كثيرة أخرى، لا ينتظر مبادرة الدولة، ولا تقنينها، ليذهب في اتّجاه معيّن. وأن معظم التنظيرات الاجتماعية الصراعية التالية لحدث اجتماعي، أو قرارٍ سياسي، تنتهي إلى العيش والازدهار ضمن فقّاعتها الخاصة من الخطاب ومستهلكيه، وتجد نفسها في حالة ارتباكٍ محرجة، كلما واجهها الخيار الاجتماعي، بما يصطدم بمُنتجاتها في "صناعة المعنى". وللحديث بقية حول جانبين آخرين من التنظير الاجتماعي، وهما الدولة وصناعة المجال الثقافي، وطبيعة الفنّ.
@Emanmag

دلالات

avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع