عن عبث "القيادة الفلسطينية"

عن عبث "القيادة الفلسطينية"

01 ديسمبر 2017
+ الخط -
كما كان متوقعا، عاد التراشق الإعلامي بين حركتي فتح وحماس في ضوء تعثر مفاوضات المصالحة الوطنية في القاهرة. تحمل كل من الحركتين الأخرى المسؤولية، أما الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والذي يناهز المليوني إنسان، ويقبع تحت حصار وحشي منذ أكثر من عقد، فلا يملك إلا أن يتابع تلك السّوريالية بتشاؤمٍ وقرفٍ كبيرين. سبق أن كتبت من قبل، وأعيد هنا، أن السلطة الفلسطينية تتعامل مع قاطني القطاع كأنهم رهائن أثقل عبئهم كاهل حركة حماس، القوة المسيطرة في القطاع. ومن ثمَّ، فإن السلطة، وعمودها الفقري حركة فتح، تريدان تَجْريعَ "حماس" السُمَّ بهم، حتى ولو عنى ذلك أن المدنيين في غزة سيتجرّعونه معها. ليس هذا دفاعا عن "حماس" هنا، وإن كان إدانة لحركة فتح والسلطة. وافقت "حماس" على التنازل عن إدارة قطاع غزة، ليس مرة واحدة، بل مرات. فعلت ذلك عام 2011، ثمَّ عام 2014، عندما تسلمت حكومة "الوفاق الوطني"، والتي في حقيقتها حكومة "فتح"، إدارة القطاع، ثمَّ إنها فعلت ذلك مرة ثالثة الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني). وعلى الرغم من ذلك، وفي كل مرة، لم ترفع العقوبات عن قطاع غزة، كما لم يرفع الحصار، ذلك أن السلطة و"فتح" يتعاملان بمنطق الثأر من هزيمة "حماس" العسكرية لهما في قطاع غزة عام 2007. أما مصالح الشعب الفلسطيني، ومستقبل القضية الفلسطينية، فإنهما لا يبدوان حاضرين أبدا في مقارباتهما.
عندما وَقَّعَ الطرفان، "فتح" و"حماس"، اتفاق "المصالحة الوطنية"، برعاية مصرية، في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ظَنَّ كثيرون أن الأمر مختلفٌ عن المرات السابقة، فمصر هذه المرة جادّة، وثمّة إرادة عربية ودولية، بل وحتى ضوء أخضر أميركي 
لتحقيق "المصالحة". صحيحٌ أنه توفر بعض غطاء عربيّ ودوليّ حينها للمضي في مفاوضات "المصالحة"، ولكن ما لم ينتبه له كثيرون، أو ما تعمّدوا إغفاله، أن ذلك الغطاء لم يعنِ يوما عودة السلطة إلى قطاع غزة مع بقاء قوة "حماس" العسكرية كما هي. ليس هذا ما تريده مصر ولا الإمارات ولا حتى السعودية. وإسرائيل لن تقبل بذلك أبدا. أما إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فإنها راهنت على "مصالحة" تقصقص أجنحة حركة حماس، وتعزّز موقع السلطة، تَمْثيليّاً وَسُلْطَوِيّاً، للدخول في مفاوضات "صفقة القرن" التي سَتُصَفي ما تبقى من بعض حقوق وثوابت فلسطينية في المسار العبثي الذي تتبعه القيادة الرسمية الفلسطينية في المفاوضات.
لكن، عندما أظهر رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بعض تمنّع في وجه معايير إطار الحلِّ الذي تعكف عليه إدارة ترامب، كان الاستدعاء السعودي له، قبل أيام، ليقول له وليُّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، كما أكدت مصادر كثيرة: "اقبل أو استقل"! ومنذ ذلك الاستدعاء الذي يبدو أن موضوع "المصالحة" كان قد طرح خلاله، تدهورت محادثات "المصالحة"، ونكصت "فتح" بكثيرٍ من تعهداتها فيها، فلم يفتتح معبر رفح مع مصر في منتصف الشهر الماضي، كما كان قد اتفق عليه، على الرغم من طرد موظفي "حماس" منه شَرَّ طردة، ثمَّ عاد موضوع سلاح المقاومة إلى الواجهة مجددا، وهو الأمر الذي اتفق على تأجيل النقاش فيه. والآن تعلن "حكومة الوفاق الوطني" أمرها لقدامى الموظفين بالعودة إلى وزاراتهم من دون انتظار إتمام عمل "اللجنة القانونية والإدارية" مهامها، كما ينص على ذلك اتفاق "المصالحة" في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وبالمناسبة، فإن الموظفين الذين دعتهم الحكومة إلى الالتحاق بوظائفهم مستنكفون عن العمل منذ يونيو/ حزيران 2007، بأمر من السلطة، في حين بقوا يتلقون رواتبهم وهم في منازلهم، وهو ما اضطر "حماس" إلى تعيين كادر وظيفي جديد، من عشرات آلاف الموظفين، ليسدوا النقص في المرافق الصحية والتعليمية والأمنية والخدماتية.. إلخ، وهم الذين لا تعترف بهم السلطة اليوم.
في جلسة المحادثات في القاهرة، يومي الثلاثاء والأربعاء (21-22 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي)، ظهرت نغمة جديدة، لم تكن محل نقاش من قبل. "التمكين الكلي" أو "التمكين الفعلي" للحكومة في قطاع غزة. ولكن ما الذي تعنيه هذه العبارة، خصوصا أن "حماس" قد سلمت المعابر والوزارات للحكومة، كما أنها لا تبدي ممانعةً بتسلم الأخيرة ملف الأمن الداخلي متى ما كانت جاهزة. بالنسبة للحكومة المدارة من "فتح"، فإن "التمكين الفعلي" عَبَّرَ عن نفسه بقرارها عودة الموظفين المستنكفين إلى وزاراتهم، من دون مراعاة الحقائق التي تشكلت على مدى عقد، وارتباط مصير آلاف العائلات الغزية بتلك الحقائق، وما قد يؤدي إليه التعجّل والمعالجة النزقة لهذا الملف الخطير من اضطراب اجتماعي في القطاع. أما "التمكين الكلي" بالنسبة لوفد "فتح" المفاوض في القاهرة، فإنه يعني، حسب رئيس الوفد، عزام الأحمد، أنه 
وعلى الرغم من أن موضوع سلاح المقاومة لم يطرح في اجتماع القاهرة (تقول "حماس" إن وفد "فتح" أراد وضع الملف على طاولة المحادثات، ولمّح إليه غير مرة)، إلا أنه "وطالما (أن) السلطة الشرعية هي المسؤولة عن الأمن في غزة والضفة فأي سلاحٍ غير ذلك غير مقبول". مضيفا: "لا يوجد شيء اسمه سلاح مقاومة وسلاح سلطة، هناك سلاح فلسطيني واحد موحد". ولا يتوقف مفهوم "التمكين الكلي" في مقاربة "فتح" عند ذلك الحد، بل إن الأحمد يقول إن الأمور الأخرى ستظل معلقة، ولن تُحل إلى حين "التمكين"، وسيطرة "حكومة الوفاق" على كامل قطاع غزة، مثل رواتب الموظفين المقرّر صرفها في شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وفتح معبر رفح بانتظام، وكهرباء غزة. وقال: "لا رواتب في 5/12 إلا بعد التمكين في غزة". أليس هذا هو الابتزاز بعينه على حساب الشعب المنكوب المحاصر في قطاع غزة؟
باختصار، مخطئٌ من يظن أن محادثات "المصالحة" في مقاربة حركة فتح والسلطة الفلسطينية تهدف إلى مصلحة الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، أو حتى مصلحة فلسطين ضمن الثوابت في حدّها الأدنى. حتى الحديث عن "سلاح واحد"، لمصادرة سلاح المقاومة يهمل حقيقة أن السلطة فشلت في المفاوضات، وأن المضغوط عليها لقبوله يعني نهاية القضية ضمن "الحل التاريخي" الذي يَتَوَهَمُهُ عباس. أعلم أن هناك من سيتهم كاتب هذا المقال بالتحيّز، وليكن، فالموضوعية غير الحيادية. وهذه نوع من التواطؤ، تأخذ مسافة واحدة من خصمين من دون النظر إلى المصيب والمخطئ فيهما. أما الموضوعية فتستلزم أخذ موقف مع المظلوم ضد الظالم. ولا يأخذ هذا المقال جانب "حماس" ضد "فتح"، بل يأخذ موقفا مع الشعب الفلسطيني ضد قيادة رسمية غير شرعية وغير مفوّضة تعبث بثوابتنا وتصفي قضيتنا. لربما آن الأوان أن يتنادى الفلسطينيون الشرفاء والمؤثرون في الداخل الفلسطيني، وفي الخارج، ليكون لهم قول فصل في الأمر، بما في ذلك إعلان "القيادة الفلسطينية" الرسمية خارجةً عن الصف الوطني الفلسطيني، وذلك إن لم ترفع إجراءاتها العقابية عن قطاع غزة، وإن لم تكفّ عن مغامراتها الطائشة المخزية في التعاطي مع إسرائيل، سياسيا وأمنيا.