الجيش ومستقبل مصر السياسي

الجيش ومستقبل مصر السياسي

28 نوفمبر 2017
+ الخط -
يحكم الجيش المصري، منذ عام 1952 البلاد بشكل متصل، لم يقطعه إلا أقل من عام تولى فيه الرئيس محمد مرسي الحكم، وكان أول رئيس منتخب بحرية من الشعب المصري. وخلال تلك الشهور سعى قادة الجيش، بمختلف السبل، إلى تقاسم السلطة مع مرسي، ولما فشلوا قادوا انقلابا على تجربة التحول الديمقراطي، ما زالت مصر تعيش تبعاته القاسية.
في بداية حكم الجيش مصر، سيطر رجاله مباشرةً على مختلف مؤسسات الحكم، حيث احتل الضباط الأحرار معظم مناصب الدولة، بداية من الرئيس وحتى الوزراء والمحافظين، وقد تعرّضت مصر، في تلك الفترة، لصراعات طاحنة بين قادة الجيش، أدت – كما يرى بعضهم، لهزيمة عام 1967 القاسية، والتي نتجت، في بعض أسبابها، عن الصراع الطاحن على السلطة بين الرئيس جمال عبد الناصر ووزير دفاعه المشير عبد الحكيم عامر.
وخلال عهدي الجنرالين، أنور السادات وحسني مبارك، سعيا إلى الحد من نفوذ قادة الجيش السياسي، أو موازنة هذا النفوذ من خلال الاعتماد على أحزاب سياسية مصطنعة، ونخب اقتصادية فاسدة، اعتمدت بالأساس على علاقاتها بالسلطة مصدرا لنفوذها السياسي.
ويبدو أن شعور قادة الجيش بالتهميش السياسي والاقتصادي، والسخط على نخب نظام مبارك الاقتصادية والحزبية، لعب دورا رئيسيا في دعمهم لثورة يناير، فلولا تخلي الجيش عن دعم مبارك، وتأييده الضمني الثورة، لما نجحت. وسرعان ما قاد الجيش المسار المتخبّط الذي تلا ثورة يناير، والذي شهد خطوة إلى الأمام نحو مسار الديمقراطية، تتلوه خطوات نحو السلطوية والاستبداد، وساعد الجيش على ذلك انقسام القوى السياسية، وقلة خبرتها، وتراجع الوعي الشعبي بأهمية التحول الديمقراطي، وكلها عوامل طبيعية ومتوقعة في بلدٍ بلا تاريخ من الحكم الديمقراطي، فالأجيال الحالية في مصر لم تعش فترة الانفتاح الليبرالي المحدود التي سبقت انقلاب عام 1952، وقد تعرّض المصريون، خلال حكم الجنرالات، عبد الناصر والسادات ومبارك، لمحاولات نظامية ومستمرة لعزلهم سياسيا. لذا من المنطقي ألا تمتلك البلاد بعد عقود التجريف السياسي الستة أي نخب، أو مؤسسات سياسية متمرسة سياسيا ومستعدة جيدا لتولي مقاليد الحكم.

وبدلا من أن يقود الجيش، أو قادتُه، عملية التحول الديمقراطي التدريجي والصعب، قادوا انقلابا على تجربة التحول الديمقراطي القصيرة، وألقوا بالقادة المنتخبين في السجون، وأطلقوا السراح لقوات الأمن الداخلي، سيئة السمعة، لقمع قوى المعارضة المختلفة بشتى الطرق، بما في ذلك قتل مئات من المتظاهرين والاختفاء القسري، وسجن عشرات الآلاف وانتشار التعذيب. وقد استفاد الجيش خلال انقلابه من دعم دول خليجية استبدادية وإسرائيل ومخاوف الغرب من انتشار الفوضى في الشرق الأوسط بعد فشل الثورات، كما استفادوا كذلك من ضعف المعارضة وقلة الوعي الجماهيري بالديمقراطية.
ومنذ يوليو/ تموز 2013، والجيش يحكم مصر، ويتمدّد اقتصاديا وإعلاميا وسياسيا بشراكة مع قوتين أساسيتين، أولهما قوات الأمن الداخلية، والتي لم يتم إصلاحها، للحد مما تقوم به من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، تضر بصورة القوات المسلحة المتربعة على قمة النظام. وثانيهما النخب الاقتصادية والبيروقراطية التي اعتمد عليها حسني مبارك، على الرغم مما يعرف عنها من فساد اقتصادي وسياسي، فلم يقم قادة الجيش الحاكمون لمصر حاليا بأي إصلاح جاد لتلك النخب وأسلوب تنفذها في البلاد.
وبهذا احتل قادة الجيش موقع مبارك على سدة الحكم، وتحالفوا مع قواته الأمنية الداخلية، ونخبه الاقتصادية التي تمددت على حسابهم منذ نهاية عصر السادات. ويلاحظ هنا أن قادة الجيش عزفوا حتى الآن عن إنشاء أي أحزاب سياسية، على غرار الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الديمقراطي، وعزفوا عن تولي مسؤوليات الحكم بشكل مباشر، حيث فضلوا التوسع اقتصاديا والاعتماد على نخب مدنية بيروقراطية في مجال الإدارة. ويبدو أن الجيش بطبيعته عازف عن السياسة، فهو يرفض بناء الأحزاب، ولا يعيرها الانتباه، ويريد حكم البلاد عن طريق البيروقراطيين، ومؤسسات الأمن الداخلي التي تحكّمت في عملية انتخاب أعضاء البرلمان، مع الاكتفاء بالتوسع الاقتصادي، عن طريق شركاته، وكذلك بالتوسع الإعلامي، لضمان حماية صورته وصورة نظامه، وربما يحاول قادة الجيش السيطرة بشكل أكبر اقتصاديا، ولا بد أنهم يواجهون مقاومة شديدة من رجال أعمال عصر حسني مبارك النافذين.
والسؤال الذي يجب أن يشغل قادة الجيش المصري حاليا، وهو أي مستقبل ينوونه لأنفسهم وللبلاد؟ فقد أدى حكمهم المباشر مصر خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر إلى هزيمة عام 1967، ولم يؤد حكمهم، خلال عهدي السادات ومبارك، لأي نهضة اقتصادية حقيقية، أو تطور سياسي جاد، وهم الآن يتحالفون مع مؤسسات الأمن الداخلي بدون إصلاحها، ومع نخب مبارك الاقتصادية التي طالما اشتكوا منها، وهي تحالفاتٌ تضر كثيرا بسمعة القوات المسلحة وأبنائها، في وقتٍ لا يمتلك الجيش وقادته أي خططٍ جادة لتطوير البلاد على الأصعدة المختلفة.
فهل سيبقى الجيش على سدة الحكم، والبلاد تعيش فترة ممتدة من الركود السياسي وافتقار التقدم الاقتصادي الحقيقي؟ مع العلم أنه، خلال الحكم الراهن للجيش أهدرت موارد ضخمة على مشاريع اقتصادية كبرى بلا عائد واضح، وخسرت مصر جزيرتين استراتيجيتين في البحر الأحمر، وتقاربت بشكلٍ مؤسف مع إسرائيل وقوى الاستبداد في المنطقة واليمين الغربي المتشدّد والعنصري. وقد تتعرض المعادلة السياسية الداخلية والإقليمية والدولية الداعمة لحكم الجيش لمصر لهزّات قوية خلال فترة قصيرة، فحكم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لن
يدوم، وقد يكون أقصر مما هو متصور، في ظل فضائحه الداخلية، ورفض مؤسسات الدولة الأميركية لسياساته المتهورة، ودول الخليج الاستبدادية تواجه تحدياتٍ داخلية وإقليمية متزايدة، وسخط الرأي العام المصري على الأوضاع الداخلية في تزايد.
صحيح أن مصر تفتقر للنخب السياسية المتمرسة سياسيا، وتواجه تحدّي العنف السياسي والجماعات الدينية الشمولية، ولكن رفض التغيير والاكتفاء بالحفاظ على الأوضاع القائمة والحركة المحدودة في المكان، والافتقار لرؤية واضحة للنهوض بالبلاد، سياسيا واقتصاديا، لن يعود على مصر والمصريين وقواتها المسلحة بأي عائد إيجابي. لذا، يبدو الجيش المصري أمام اختيارين، لا ثالث لهما، أولهما الاستمرار في المسار الحالي، بما يحمله من تحديات، كقنوط الجيش من السياسة ونظرته الأمنية إلى الحكم، وافتقاره خطط التحول الاقتصادي والسياسي والإصلاح الأمني الجادة، وهو مسار عالي التكلفة، خصوصا فيما يتعلق بزيادة سخط مصر والمصريين على الدور السياسي للقوات المسلحة. الخيار الثاني هو التحوّل الديمقراطي التدريجي، ووفقا لخطط معلنة وواضحة، فالأفضل لمصر والمصريين وللقوات المسلحة أن تمتلك البلاد رؤية جادة للتحول الديمقراطي، ولو على مدى زمني طويل نسبيا، فمصر لا تمتلك الآن النخب السياسية القادرة على تولي مقاليد الحكم، لكن فرصة تكوين تلك النخب متاحة دائما، والأفضل أن تبدأ اليوم قبل غد، فبدلا من غلق الباب أمامها، يمكن للجيش المصري فتح الباب، تدريجيا وبشكل منظم، لصعود فئات جديدة من الساسة والنشطاء والمؤسسات السياسية والمدنية والإعلامية المؤمنة بالديمقراطية. التحول الديمقراطي التدريجي والمنظم أفضل طريق للحفاظ على الدولة المصرية ومؤسساتها، وفي مقدمتهم القوات المسلحة وحماية البلاد من مخاطر التراجع أو الانفجار.