مهازل أميركية خطيرة

مهازل أميركية خطيرة

13 يناير 2017
+ الخط -
يلاحظ من يتابع تطورات الساحة السياسية الأميركية، في الأشهر الأخيرة، أن الولايات المتحدة تعيش مهزلةً حقيقية أشبه ما تكون بحال دول "العالم الثالث". الدولة الأعظم التي تباهي بمنظومتها الديمقراطية، ومؤسساتها المستقرة، تتعرّض اليوم لامتحان عسير، عَرَّى هشاشة بُنْيَتِها المؤسسية وعراقة قيمها. وقد دفعت هذه الحقيقة بالرئيس، المنتهية ولايته، باراك أوباما، إلى التحذير، غير مرة، من أن الديمقراطية والقيم والأعراف الأميركية التي استقرّت عبر عقود طويلة من الصراع والتراكم يمكن أن تتبدّد إن لم يمارس الشعب دور القَيِّمِ عليها ويحميها. إنه تحذير مباشر، وإن كان ضمنياً، من أن الولايات المتحدة قد تكون أمام تحدٍّ لم تعرفه من قبل. تحد مصدره داخلي، يتمثل في تيار يميني شعبوي، يصل إلى حد الفوضوية، تمكن من اختطاف أحد الحزبين الرئيسين، وهو الحزب الجمهوري، بل ونجح في إيصال مرشحه إلى الرئاسة الأميركية، والحديث هنا عن دونالد ترامب.
لا أريد أن أخوض، مجدّداً، في أسباب صعود اليمين الشعبوي أميركيا، وبروز ظاهرة ترامب، وكيف تمكّن من الانتصار في انتخابات الرئاسة أخيراً، فهذا سبق أن كتبت فيه، وكذلك فعل غيري، مرات عدة، في "العربي الجديد". ولكن ما نتابعه اليوم من مهازل قادمة من الرئيس المنتخب وفريقه يفوق كل خيال ووصف، ويدفعنا إلى التساؤل، ليس إلى أين تمضي الولايات المتحدة فحسب، بل والعالم معها كذلك. فسواء أحببنا أم كرهنا، فإن أي تغيير عميق في الولايات المتحدة لا يبقى حبيس حدودها، بل تصل تداعياته إلى العالم بأسره، ويكفي التذكير هنا بما جَرَّتْهُ رئاسة جورج بوش الابن على العالم، وتالياً رئاسة أوباما.
تقدّم الأيام القليلة الماضية لنا إطاراً تكثيفياً للحضيض الذي وصلت إليه الولايات المتحدة. رئيس منتخب، تقول الأجهزة الاستخبارية الأميركية، إن الروس تمنوا نجاحه، بل وسعوا إلى تعزيز حظوظه عبر الإضرار بمصداقية منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون. الأدهى أن تقارير
استخباراتية، غير مؤكدة، تفيد بأن الكرملين يملك وثائق وتسجيلات مصورة على ترامب يبتزه فيها، وأن أعضاء في حملته الانتخابية تواصلوا مع الروس في أثناء الانتخابات، بغرض تنسيق الهجمات على كلينتون، وإضعاف فرصها بالفوز. ترامب الذي دائماً ما أنكر أي دور روسي في قرصنة مواقع الحزب الديمقراطي وحساباته وحملة كلينتون، يقرّ بذلك اليوم تحت الضغط، ولكنه ينفي أن يكون ذلك تسبّب في فوزه في الانتخابات، وهذا حقه. ولكن، أن يصل الأمر برجل، على بعد أيام فقط من تبوؤ الرئاسة، إلى تكذيب أجهزة استخبارات بلده، والدفاع عن خصم جيوستراتيجي لها كروسيا، فهذا غير مسبوق. بل إن ترامب يذهب إلى أبعد من ذلك، بالدفاع عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو ما يضاعف من الأسئلة المثارة بشأن حقيقة العلاقة بين الرجلين، خصوصاً وأن مرشحه لوزارة الخارجية، ريكس تيلرسون، صديق قديم لبوتين، وسبق له، خلال شغله منصب رئيس مجلس إدارة شركة إكسون موبيل النفطية، أن عارض العقوبات الأميركية على روسيا جرّاء سياساتها التوسعية العدوانية في أوكرانيا.
ولا تتوقف الضجة حول ترامب عند ذلك الحد، فهذا رجل خالف الأعراف الأميركية الراسخة التي تفترض في كل مرشح رئاسي أميركي أن يكشف عن سجله الضريبي، وترامب لا زال يرفض هذا، ما يعزّز من الشكوك المثارة حول علاقات سرية له مع روسيا. وتذهب مواقف ترامب الشاذة إلى أبعد من ذلك، فهو يرفض التخلي عن إمبراطوريته التجارية والعقارية، وهو ما يثير مخاوف من أن ذلك قد يُحدث حالةً من تضارب المصالح بين موقعه رئيساً وحقيقة كونه رجل أعمال يملك مصالح تجارية في دول عديدة. دع عنك تعيينه أعضاء في عائلته مستشارين له، ومحاولة الضغط لمنحهم تصاريح أمنية، تتيح لهم الاطلاع على معلوماتٍ شديدة الحساسية للأمن والمصالح القومية الأميركية.
كل ما سبق في كفة وأن ترامب لا يؤمن بَأَوَلِياتِ القيم الأميركية، ولو من باب ذَرِّ الرماد في
العيون، كما فعل غيره كثيرون، في كفة أخرى. فلدى ترامب مشكلة مع حرية التعبير، ومنها حرية الصحافة، والتي تعتبر بنداً مقدّساً في الولايات المتحدة. وقد وصل به الأمر إلى أن يهدّد موقعاً إلكترونياً نشر وثائق عن الفضائح المزعومة التي يبتزّه بها الروس بـ"تحمل التداعيات". وكان سبق له أن هدّد صحافيين، في حملته الانتخابية، مثل ميغين كيلي، واليوم يعلن الحرب على "سي إن إن"، لا لشيء إلا لأنها تقوم بعملها مهنياً.
الحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها، وألمح إليها أوباما وغيره، أن الانتخابات الأميركية دفعت شخصاً أرعن مارس "البلطجة" ضد خصومه، ويبدو أنه سيكمل على المنوال نفسه في سنوات حكمه. شخص أعلن الحرب على حزبه ابتداءً، ثمّ على الإعلام الأميركي، ثمَّ على النظام الانتخابي، ثمَّ على المؤسسة العسكرية، ثمَّ على الأجهزة الاستخباراتية لبلاده التي شبّه ممارستها معه، كما يقول، بممارسات "ألمانيا النازية". وهو كان قد أعلن الحرب على الديمقراطيين، والأقليات العرقية والدينية، بل وعلى كثير من القِيَمِ الأميركية نفسها. ولأن رجلاً بمثل هذه المواصفات من الرعونة والفوضوية، وغموض العلاقات والارتباطات، هو الرئيس، بعد أيام، لأعظم وأقوى دولة على وجه البسيطة، يغدو مفهوماً أن يترقب العالم بتوجس وقلق ما ستحمله الأيام تحت رئاسته. قد يكون ترامب ذلك الإعصار المدمر الذي لم يضرب أميركا فحسب، بل وأجزاء كثيرة من العالم معها.