نظام يتغابى على الجميع

نظام يتغابى على الجميع

06 مايو 2016
+ الخط -
من الأهمية بمكان أن يُشار إلى أحداثٍ مفصليةٍ كبرى، تتراكم على طريق المواجهة للنظام العسكري البوليسي في مصر، خصوصاً أنه يتسم بحالة من غطرسة القوة والاستبداد، مصحوبة بنوبات غباء شديد يحرّك الغضب من كل طريق، ويفقد كل يوم وفي تآكل، ليس باليسير، لتحالفاته التي تكونت في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، قبل انقلاب "3 يوليو"، في أكبر وأقبح عمل من الثورة المضادة وأجهزة الدولة العميقة. قامت نقابة الأطباء بعمل جماعي مهم، كان حدثاً نقابياً مؤثراً واحتجاجياً عظيماً، ثم كانت المظاهرات على التنازل السافر عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، في 15 و25 من إبريل/ نيسان الماضي، وفاجأ هؤلاء بمظاهرات كبيرة أمام نقابة الصحفيين في 15 إبريل في إحياء لرمزية المكان.
لسلم نقابة الصحفيين رمزية في كسر حاجز الخوف من النظام، ففوق درجاته، ولدت حركة "كفاية" التي كانت أول مسمار في نعش نظام حسني مبارك. في كل أيام ثورة يناير كان سلم النقابة حاضراً، وحتى يوم الاثنين الماضي، فتحت النقابة أبوابها للمحتجين، وشكلت غرفة عمليات لمتابعة المظاهرات. وكانت قوات الأمن قد أغلقت، في اليومين الماضيين، مداخل شارع عبد الخالق ثروت المؤدي إلى نقابة الصحفيين، منعاً لوصول المتظاهرين إلى سلم النقابة، ذي الدلالة في كسر حاجز الخوف، منذ عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك وصولاً إلى الحالي عبد الفتاح السيسي. إنها رمزية المكان التي تولد الطاقة الاحتجاجية التي تحملها ذكريات المكان والمقام، لتعبر عن إرهاصات ثورة يناير، وإعدادات واستعدادات كانت بمثابة دق الناقوس، إيذانا بحدث ثوري يلوح في الأفق، وكانت ثورة يناير.
ويبدو أن هذه الرمزية في المبنى والمعنى شكلت حالة نفسية لجهاز الشرطة الذي ربما استدعى أحداث الثورة على مبارك المخلوع وإرهاصاتها، فبعد اقتحام غبي، أيا كان الآمر به، أغلقت قوات الأمن المصرية جميع الشوارع المؤدية إلى مقر نقابة الصحفيين وسط القاهرة، حيث يعتصم صحفيون داخلها، مطالبين بإقالة وزير الداخلية، بعد اقتحام قوات الأمن مقر النقابة والقبض على اثنين من الصحفيين فيها يوم الأحد. وبدأت النيابة العامة المصرية التحقيق مع الصحفييْن عمرو بدر ومحمود السقا، بينما أعلن نقيب الصحفيين، يحيى قلاش، اعتصاماً مفتوحاً في مبنى النقابة، إلى حين اجتماع الجمعية العمومية. ورفضت نقابة الصحفيين بيانَ وزارة الداخلية بشأن اقتحام قوات الأمن مقرّها، وأعلن نقيب الصحفيين اعتصاماً مفتوحاً إلى حين اجتماع الجمعية العمومية لاتخاذ الإجراءات المناسبة. شكل يوم الأحد شرارةً استحضرت رمزية المكان وغشم الأمن وقوات الداخلية، رمزية المكان وشرارة استحضرها الزمان.
وفي السياق نفسه، أصدر صحفيون بياناً أعلنوا فيه الدخول في اعتصام في مقر النقابة، وحمّلوا المنقلب المسؤولية عما وصفوها بالجريمة غير المسبوقة، ووصفوا الاقتحام بأنه اعتداء غاشم على حرية الصحافة، لإيقافها عن القيام بدورها في فضح جرائم النظام من قتل واعتقال وتعذيب، وطالب بيان الصحفيين بإقالة وزير الداخلية، اللواء مجدي عبد الغفار، باعتباره مسؤولاً عن تدهور الحقوق والحريات في البلاد، وقال البيان الذي وقّع عليه أكثر من ثلاثين صحفياً إن ما حدث يتوّج ما أكدته تقارير المنظمات المعنية بحرية التعبير والصحافة بشأن التدهور غير المسبوق لأوضاع الصحافة في عهد السيسي، وذكر أن مصر أصبحت ثاني دولة في حبس الصحفيين في العالم عام 2015، ودعا البيان إلى إطلاق سراح الصحفيين المعتقلين والمحبوسين في قضايا رأي، وإقالة وزير الداخلية ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
كانت نقابة الصحفيين قد تقدمت، قبل أيام، ببلاغ للنائب العام ضد وزارة الداخلية، بتهمة اقتحام
مقرها واعتقال الصحفيين خلال مظاهرات 25 أبريل/نيسان، بمناسبة ذكرى تحرير سيناء، واعتقل الأمن في المظاهرات 47 صحفيا، ثم أفرج لاحقاً عن 38 منهم. ظل الصحفيون المحتجون على سلم نقابتهم متظاهرين ومندّدين بقمع السلطة لهم، واعتقال زملائهم في المظاهرات التي شهدتها مصر في ذكرى تحرير سيناء. تعبوا من الهتافات في شارع عبد الخالق ثروت الذي أغلقته قوات الشرطة، ولم يجبهم سوى صدى الصوت، وهم عشرات لا يصل إليهم أحد، ولا يصل صوتهم إلى أحد. تحوّل الشارع الشهير، وسط القاهرة، إلى ملعب لكرة القدم، حيث صُدم الضباط المحاصِرون للشارع الجالسون بداخل سيارات الشرطة، بالصحفيين يجرون متقاذفين الكرة، مستغلين خلو الشارع من السيارات والمارّة بفعل الحصار، وبدأوا لعب كرة القدم.
قال أحدهم أردنا إيصال رسالة بأن الحصار لم يكسر إرادتنا، وأن الشارع لنا، وسيظل سلم النقابة حاضنةً لكل الحركات الاحتجاجية. خشي ضباط الشرطة والأمن الوطني من تحطم زجاج سيارات الشرطة فأبعدوها، كما يروي الصحفي محمود النجار، متابعاً لـ"الجزيرة نت" "ثم ما لبثوا أن فتحوا الشارع من الاتجاهين للمارة، لكي يوقفونا عن لعب الكرة"، معتبراً أن "الكرة فكّت الحصار، وهي فكرة من بين أفكار خلاقة كثيرة، لن يعدم الصحفيون ابتكارها إزاء سلطةٍ غاشمة. وتحدّث آخر عن أنه "سرعان ما فتحت القوات الشارع، حتى لا يتحوّل الأمر، فيما يبدو، إلى رمزية جديدة للاحتجاج، عبر مباراة الشارع، بعد كسره بوقفات السلم" فقد فشلت وستفشل كل محاولات حصار مبنى الحرية، ومحاولات كسر إرادة الصحفيين، هكذا صور بعضهم المشهد الذي يعبر عن إرادة تكسر جدار الخوف المصنوع.
وهذا تسريب غبي يعبر عن غطرسة القوة وغبائها معًا، تسريب خطة الداخلية المصرية للانتقام من نقابة الصحفيين، اعتمدت على ضرورة تشويه النقابة وأعضاء مجلسها بالتنسيق مع لواءات سابقين، كي يظهروا على البرامج الإعلامية للدفاع عن موقف الداخلية. وأظهر البيان رفض وزارة الداخلية الاعتراف بمسؤوليتها عن اقتحام النقابة، حيث قال: "يجب أن يكون للوزارة موقف ثابت، وهو ما تم التأكيد عليه، في البيان الصادر عن الوزارة، بشأن الواقعة، فلا يمكن التراجع عن هذا الموقف الآن، فالتراجع يعنى أن هناك خطأ حدث. وبالتالي، لو كان هناك خطأ، فمن المسؤول ومن يجب محاسبته؟. وطالب البيان بضرورة "العمل على كسب تأييد الرأي العام لمواجهة موقف النقابة، وذلك بترويج أن النقابة تسعى إلى أن تكون جهةً فوق القانون، لا يمكن محاسبة أعضائها، بيان يوضح الغطرسة واعتماد سياسة الإفك والتزييف.
وفي استعراضٍ غبي للقوة، استعانت الداخلية الغبية بصديقٍ أغبى، من البلطجية و"المواطنين الشرفاء"، حملوهم في حافلاتٍ إلى مقر نقابة الصحفيين. فتحت قوات الأمن الطريق لمسيرة تضم عشرات اتجهوا ناحية نقابة الصحفيين، صباح الأربعاء، وردّدوا هتافات ضد الصحفيين منها: "ادبح يا سيسي"، بينما منعت القوات غير حاملي بطاقة عضوية النقابة من المرور. وروّج إعلاميون معروفون في مصر بأنهم أذرع إعلامية للمنقلب توقعاتهم حول ما يمكن أن تسفر عنه الجمعية العمومية للصحفيين، المقرّرة الأربعاء، لبحث أزمة اقتحام قوات الأمن النقابة، بالتشكيك في احتمال اكتمالها، بينما روّج بعضهم، وأشار إلى وجود مشاوراتٍ مكثفةٍ تتعلق بالأزمة، بعيداً عن النقابة، واستمرار المباحثات مع جهات وصفها بأنها "سيادية"، ودوائر عليا في الدولة، بشأن أزمة اقتحام النقابة. وذلك كله للتأثير على الأعداد التي توافدت على الجمعية العمومية الأربعاء، لكنه الفشل الذريع، حضر الصحفيون بكثافة، ووصل عددهم إلى ما يقرب الستة آلاف في لطمة كبرى لهوس النظام وغطرسته.
وجاء العنوان الرئيسي لإحدى الصحف، "القلم يحاصر السلاح.. عمومية تاريخية للصحفيين تقر 18 قرارًا ضد اقتحام الداخلية مقرها". الإصرار على طلب إقالة وزير الداخلية، تقديم رئاسة الجمهورية اعتذاراً واضحاً لجموع الصحفيين عن جريمة اقتحام بيت الصحفيين، وما أعقبها من ملاحقة مقرّها وحصاره. الإفراج عن جميع الصحفيين المحبوسين في قضايا النشر، والعمل على إصدار قوانين تجرّم الاعتداء على النقابة، أو اقتحامها، وإصدار قانون منع الحبس في قضايا النشر، ومنع نشر اسم وزير الداخلية، والاكتفاء بنشر صورته "نيغاتيف" فقط، وصولاً إلى منع نشر أخبار وزارة الداخلية حتى إقالة الوزير، رفع دعوى قضائية ضد وزارة الداخلية لمحاسبة المسؤولين عن حصار النقابة، وتسويد الصفحات الأولى في الصحف في عدد الأحد المقبل، وتثبيت "شارات سوداء"، تجديد الثقة في مجلس النقابة حتى انتهاء الأزمة، وعقد مؤتمر عام لبحث إضراب عام لجميع الصحفيين واستمرار الاعتصام حتى الثلاثاء المقبل، وتشكيل لجنة من مجلس النقابة لإدارة الأزمة. خلاصة المعادلة بعد كل هذه المشاهد، أمن غبي وقيادة متغطرسة وثورة آتية.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".