رشاوى السلام الدافئ

رشاوى السلام الدافئ

27 مايو 2016
+ الخط -
يقوم المنقلب، كل وقت، بتقديم رشاوى لدولٍ كثيرة، حتى يمكن أن يضفي شرعنةً على انقلابه، يقوم بذلك بشراء صفقات من السلاح أو بالتنازل عن حقوق، أو ببيع أرضٍ أو بتقديم تنازلاتٍ من كل شكل. إنه يحاول بذلك أن يجعل من هذه الدول التي تساعدُه صاحبةَ مصلحةٍ في استقرار سلطانه وحكمه، ويبدو ذلك جلياً في أمرين مهمين، وقعا في الآونة الأخيرة، أمرٌ يتعلق بخطابٍ يمكن تسميته السلام الدافئ، وبقرضٍ أصدر به قراراً جمهورياً مع روسيا بلغ خمسة وعشرين ملياراً من الدولارات. بين هذا الخطاب والقرض، تأتي الرشاوى، معنويةً كانت أم مادية، لتعلن عن أمرٍ خطير، أن قائد الانقلاب يريد أن يُشرْعِنَ انقلابه، مهما كان الثمن، سواء تعلق هذا الشأن بانبطاحٍ في علاقته مع إسرائيل، أو في عقد ديونٍ تكبل مصر في قادم الأيام.
عشية الذكرى الثامنة والستين للنكبة في فلسطين، أثارت تصريحات المنقلب، في افتتاحه مشروعاً للطاقة في صعيد مصر، استياء من الشعب المصري بكل فئاته، إذ دعا فيه إلى السلام الدافئ مع إسرائيل. وفي حقيقة الأمر، سبقت هذا التصريح الذي أدلى به في أسيوط، في مكانٍ اتشح بألوانٍ تمثل ألوان العلم الإسرائيلي نفسها، زيارةٌ عابرةٌ قام بها توني بلير، وأعقبتها زيارة محمد دحلان، ليؤشر ذلك إلى أن هذا الخطاب عن السلام الدافئ لم يصدر عفواً، لكنه كان خطاباً متعمّداً من المنقلب. ومبعث موضع الاستغراب في هذا المقام أن هذا الخطاب يصدر من على أرض صعيد مصر، إذ تصوّر الناس أنه سيتحدث عن مشكلات الصعيد وعن مظلومياته، وعن إهماله على مرّ الزمان من جميع من حكموا مصر، إلا أنه، في حقيقة الأمر، وجّه خطابه للكيان الصهيوني، ولم يكن غريباً أن قوبل هذا الخطاب بترحابٍ شديدٍ من نتنياهو، والذي وصف هذا الخطاب بالمشجّع، كما أكد أنه يستلهم الشجاعة من هذا الرجل.
حينما تتحدّث إسرائيل عن شجاعة أيِّ عربيٍّ، فإنما تعني، في حقيقة الأمر، أنه "أجبن الجبناء"، فأي مدحٍ يكون بعكسه، مناط ذلك تحقيق مصالح إسرائيل التاريخية والثابتة، وما يمثله ذلك من انبطاحٍ حقيقي، بكونه ترساً في آلة إسرائيل الجهنمية، لتحقيق أهدافها، إنها الشجاعة الزائفة، حينما تصف إسرائيل بمن يكون في خدمتها، ويشكل أداةً لخدمة أغراضها وأهدافها.
بشّرَ المنقلب بتحقيق سلامٍ أكثر دفئاً، حينما يستطيع حل القضية الفلسطينية. لم يقل، في حقيقة الأمر، ما هو الحل، لكنه، قبل أشهر، كان قد صرّح بأن "المزاج العدائي والتشكيك تضاءلا بالسلام مع إسرائيل"، وهو تصريحٌ قوبل باستهجانٍ واسع، آنذاك، إذ جاء في وقتٍ، لم تكفّ فيه آلة الحرب الإسرائيلية عن استهداف الفلسطينيين، واستهداف قطاع غزة، غير مرةٍ، بضرباتٍ وتوغلات عسكرية، وكذلك في ظلّ تمدد النشاط السرطاني الاستيطاني الصهيوني وتوغله وانتشاره، كما أدلى بحديثٍ صحفيٍّ، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، الصيف الماضي، بضرورة "توسيع دائرة السلام مع إسرائيل، لتشمل عدداً أكبر من الدول العربية".
بات هذا التبشير بهذا السلام الدافئ مكافأة مجانية لنتنياهو، لا نعرف أي مقابل يمكن أن يحصل عليه عبد الفتاح السيسي سوى أنه يمارس خطاً ثابتاً في التضييق على غزة، وإحكام حصارها، وفي اتهام حركات المقاومة الفلسطينية بأشكالٍ ودرجاتٍ مختلفة، مطلقاً كلاب إفكه الإعلامي الذين يسبّون ويهجون، ليل نهار، فصائل المقاومة الفلسطينية، خصوصاً حركة حماس.
لم يكن هذا كله إلا خطاً ثابتاً لممالأة إسرائيل، باعتبارها جواز المرور الذي يشكل الرضا
السامي، إذ يضغط الكيان الصهيوني من أجل مساندة هذا النظام الانقلابي، ودعمه من دول غربية، ومن الولايات المتحدة الأميركية، وبدت الصحافة الإسرائيلية تعلن على صفحاتها أنَّ السفير الإسرائيلي في مصر، بعدما كان حبيساً خلف أسوار السفارة خلال عهد حسني مبارك، أصبح من جلساء المنقلب، ويلتقيه (أي السفير) عدة مرات، بل أكثر من ذلك، جاءت أقبح مجاملة قدمها السيسي بإطلاق سراح عودة الترابين الذي دين بالتجسس قبل خمسة عشر عاماً في السجون المصرية.
هذا هو السياق الذي يتعلق بمفهوم السلام الدافئ الذي لا يشكل إلا إعلاناً بالانبطاح الكامل، كان المنقلب عرّاباً له في منطقة الشرق الأوسط، وفق عملياتٍ ثابتةٍ صار يُعبّر عنها بالتعاون الأمني مع مصر، وهي، في حقيقة الأمر، أكثر من ذلك، إذ تشكل حلفاً حقيقياً، من لحظات الانقلاب الذي وصفه عاموس جلعاد بـ"معجزة أمنية"، إن ما كشفه تقرير لأحد المواقع الإسرائيلية، في العام الماضي، والذي أكد "أن السيسي أكثر المسؤولين الأجانب تواصلاً عبر الهاتف مع نتنياهو بصورة غير معلنة". إنه الانبطاح الاستراتيجي الذي يريد المنقلب مد الخط على نهايته، في العلاقة مع الدول العربية الأخرى، وذلك ضمن خطابٍ متحدٍ ومتشابه، حول المصالح المشتركة المتمثلة في مكافحة الإرهاب. وفي يناير/ كانون الثاني، في مفتتح العام، كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية النقاب عن أن إسرائيل تقدم دعماً للجيش المصري في سيناء، وهو ما يتباهى به المنقلب، بقوله إن قواته صارت تدخل سيناء لمقاومة الإرهاب، على حد قوله من دون استئذان.
ماذا يعني السلام الدافئ إلا محاولة من المنقلب للقيام بكل ما من شأنه حرث الأرض، لتطبيعٍ كامل لمصلحة الكيان الصهيوني، والقضاء قضاءً مبرماً على كل أشكال المقاطعة الرسمية وغير الرسمية، وبما يمهد لإقرار كاملٍ بالغصب الإسرائيلي، ومن دون أدنى تنغيص على الكيان الصهيوني بردّ بعض الحقوق، أو إيقاف الاستيطان أو توقف، حتى عن كل الانتهاكات التي تتعلق بتهويد بيت المقدس، والاعتداء المتكرر على حرمة الأقصى، من جحافل صهاينة يقومون بذلك كله في حماية جيش الكيان الصهيوني، وتواطؤ وصمت عربيين مريبين، ينتفض هؤلاء المرابطون من أهل القدس، ليدافعوا عن الأقصى بصدور عارية، من دون أي سند. ومع ذلك، يخرج بعض المتصهينة، في مصر وفي بلاد العرب، ليتحدثوا عن كل أشكال التطبيع مع إسرائيل.
إذا أردت أن تتعرّف على حجم الرشوة المعنوية التي يقدمها السيسي، من خلال مقولة السلام الدافئ، فإن عليك فقط أن تلحظ وتطلع على موقع صحيفة يديعوت أحرنوت منذ يومين، إذ يعبّر كاتبان "أن السيسي يدرك حجم الدور الذي تقوم به إسرائيل، من أجل مراكمة شرعية دولية لنظامه"، ويكشفان أن جميع أعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي، برئاسة الليكودي تساحي هنغبي، أكدوا، في زيارتهم واشنطن وأمام صُنّاع القرار والمشرعين الأميركيين، على أهمية الدور الإيجابي الذي يقوم به نظام السيسي في مواجهة الإرهاب.
السلام الدافئ هو الرشوة الكبرى التي يقدمها المنقلب للكيان الصهيوني، لإضفاء شرعنة على غصبه، غاصبان يتحدثان لغةً واحدةً غاصب الأرض وغاصب الحكم.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".