مرّة أخرى.. عن بحثٍ منذ 27 عاماً

مرّة أخرى.. عن بحثٍ منذ 27 عاماً

26 مايو 2016
+ الخط -
كتبت في "العربي الجديد"، قبل أكثر من عام، عن بحث قرأته مصادفةً للدكتورة صفاء موسى، نُشر عام 1989 في مجلة السياسة الدولية التي يصدرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية على ما أتذكر، وكان بعنوان "نهاية النظم العسكريه والانتقال إلى الديمقراطية في العالم الثالث". هو بحث رائع، ولا أزال أتذكّره جيداً لأسباب عديدة، منها أنه في مجلةٍ يصدرها مركز بحثي عريق مملوك للدولة المصرية، وأن الدراسة صدرت في بداية عهد حسني مبارك ضمن عدة أبحاث محايدة عن حالة حقوق الإنسان في الوطن العربي، ومنها أنه صدر منذ أكثر من 27 عاماً بشكل محايد، ولم يكن هناك وقتها من يتخيّل أن تقوم ثورة شعبية عظيمة في مصر مثل ثورة 25 يناير 2011، ولم يكن هناك أحد وقتها يتخيّل أن يحدث هذا التراجع وهذا التدخل العسكري والتحكّم في مقاليد الأمور، كما جرى منذ 3 يوليو/ تموز 2013. جاءت الدراسة بالأساس على أمثله لكوارث الحكم العسكري في أميركا الجنوبية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وكيف حدث تحول ديمقراطي بعد ذلك في تلك البلدان، أدى إلى التقدم والتنمية في معظمها. وروعة تلك الدراسة أنها صالحة بشكل كبير لتفسير ما يحدث في مصر الآن، لأن السيناريو واحد، وللأسف النتائج الكارثية متشابهة نتيجة الحكم العسكري واستمراره على مدار التاريخ، وللأسف لا نتعلم.
ترصد الدراسة بالأساس أسباب الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، والتي تستجد غالباً بعد أزمات بين القوى السياسية والنخبة، كحكومة ومعارضة، خصوصاً في الدول حديثة الديمقراطية، فتتوقف جميع الأنشطة في الدولة، نتيجة تلك الأزمات، ما قد يؤدي إلى التدخل العسكري لعدة أسباب أو دوافع، منها دافع وطني، كمحاولة لإنقاذ البلاد والوصول إلى حل سياسي، أو لوقف أعمال العنف، أو لوقف الفوضى، أو لتجنب تدخلات خارجية وأخطارها. وفي هذه الحالة، يعود الجيش إلى ثكناته، بعد إتمام المهمة وحل الأزمة، والوصول إلى صيغة للتوافق بين القوى السياسية، وهي حالات نادرة.
وهناك أيضاً حالاتٌ كثيرة، يغلب عليها الطمع والانتهازية على بعض القادة العسكريين، فيؤثرون البقاء في السلطة بشكل مباشر، بحجة الحفاظ على الأمن. وأحياناً، تتم إقامة انتخابات صورية يفوز فيها القائد العسكري. وفي أحيان أخرى، يكون التدخل العسكري بدافع الحفاظ على المصالح الاقتصادية للمؤسسة العسكرية. وفي أحيان كثيرة، يكون هناك تخطيط مسبق ودور للمؤسسة العسكرية في إشعال الأزمة السياسية والخلافات بين السياسيين، حتى يكون هناك ذريعة للتدخل.
ورصدت الورقة البحثية كذلك أن الحكم العسكري يبدأ فترته بشرعيةٍ مشكوكٍ فيها، واعتراضات كثيرةٍ داخلية وخارجية، خصوصاً أنه يرتكز على إقامة نظام حكم سلطوي، يغلب عليه الطابع الفردي، وقد جرت العادة في دول العالم الثالث باستخدام ذريعة حفظ الأمن وإنقاذ الاقتصاد والحفاظ على الدولة، من أجل تبرير البقاء في السلطة، وعدم العودة إلى الثكنات، ما يتطلب، بالطبع، اتخاذ تدابير استثنائية وإجراءات قمعية، وإغلاق قنوات التعبير عن الرأي. وبالتالي، تصبح الشرعية مرهونةً بتحقيق الأهداف المعلنة والوعود.
ومن الظواهر التي رصدتها الورقه البحثية، منذ 27 عاماً، أنه عندما تغلق السلطات العسكرية،
أو العسكرية ذات الرداء المدني، المجال العام، بحجة الاصطفاف وعدم التعطيل، يلجأ المجتمع إلى الوسائل البديلة والموازنة، من أجل التعبير عن الذات أو الآراء، فعند إبطال فاعلية الأحزاب، أو حصارها، يظهر ما تسمى الحركات والائتلافات، وعندما يتم إغلاق القنوات الشرعية، أو الوسائل السياسية التمثيلية، مثل البرلمان والمجالس المنتخبة التي تصبح مجرد أداةٍ في يد السلطة، يلجأ المجتمع إلى الوسائل الاحتجاجية والمظاهرات والإضرابات، وعندما يتم حظر التنظيمات المعلنة تتحول سريةً.
ومن الملاحظات في البحث منذ 27 عاماً أن النظام ذا الطابع العسكري يلجأ إلى الإفراط في إقامة المشروعات الكبرى، والمشروعات ذات الطابع القومي، بغرض زيادة التأييد الشعبي ولمعالجة مشكلة الشرعية، وهو ما يدفعه إلى التوسع في القروض، والحصول على المنح لإقامة مشروعات ذات طابع دعائي، وكذلك يتم الاستعاضة عن الحرمان من الحقوق السياسية بمحاولات إشباع الاحتياجات الاقتصاديه والأساسية.
ومن المعتاد في الأنظمة ذات الطابع العسكري أن يكون الهدف تحقيق نمو اقتصادي سريع، يستطيع تسويقه نجاحات أمام الجماهير، من أجل معالجة أزمة الشرعية، ومن أجل تخفيف الاعتراضات على تجاهل الحقوق السياسية، أو القمع والاستبداد، وهو ما يؤدي عادة إلى مشكلات اقتصادية على المدى البعيد، تؤدي، بعد عدة سنوات، إلى تضاؤل التأييد الشعبي، وزيادة الاحتجاجات بسبب إجراءات التقشف.
ورصد البحث أنه، في معظم الحالات، تؤدي الإجراءات الاقتصادية المصاحبة للمشروعات الضخمة ذات طابع الدعائي، والتي يكون معظمها بدون عائد اقتصادي، أو تنموي حقيقي، مثل إجراءات الاقتراض والتقشف وتقليل الالتزامات الاجتماعية للدولة، إلى مزيدٍ من المعاناة والأزمات على المدى الطويل، والتوسع في القروض الدولية، والتوسع في استيراد السلع الرئيسية لسد العجز الناتج عن التركيز على المشروعات ذات الطابع الدعائي، على حساب التنمية والتصنيع والإنتاج الحقيقي. ومع الوقت، يبدأ النظام ذو الطابع العسكري في مخالفة الوعود، وتظهر النتائج والمعاناة، وتزداد مع الوقت، فتبدأ فئات أخرى في الاحتجاج لأسباب اقتصادية واجتماعية، وهو ما يعتبره النظام تهديداً وجودياً، ويبدأ في زيارة جرعة القمع بهدف الترهيب. ومع القمع، تزداد الاحتجاجات، ويكتسب النظام عداءاتٍ جديدة، ويزداد القمع، وتزداد الاحتجاجات إلى أن يؤدي ذلك إلى أزمة جديدة.
وقد تحولت معظم دول أميركا الجنوبية إلى الديمقراطية، بعد عقود طويلة في الأنظمة السلطوية والانقلابات العسكرية، وبعد معاناة شديدة من الأزمات الاقتصادية والكوارث التي سببتها الأنظمة العسكرية، والانقلابات المضادة، فعندما يصل الطريق بالنظام العسكري إلى أزمةٍ جديدة، بسبب الغرور والعناد، يصبح هناك عدة سيناريوهات، فإما أن يؤدي إلى كارثةٍ على الدولة، وهو ما حدث في مصر بالفعل في يونيو/ حزيران 1967، أو قد تؤدي الأزمة الجديدة إلى انقلابٍ جديدٍ من داخل المؤسسة. ويؤدي ذلك إلى تكرار المأساة مرة أخرى، أو قد تجري المؤسسة العسكرية استبدالاً سلمياً هادئاً، أو بإجراءات قانونية للشخص الموجود في المواجهة، والممثل لمصالح المؤسسة. وهناك السيناريو الأكثر نضجاً والأكثر شهرةً، وهو الوصول إلى صيغة جديدة واتفاق جديد، للمشاركة في السلطة بين السياسيين والعسكريين، بما يحفظ مصالح المؤسسة مع الحفاظ على الديمقراطية والحكم المدني، والسيناريو الأخير هو ما أدى، بالفعل، للتحول الديمقراطي التدريجي في بلادٍ عديدة.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017