رأسها المحتشد بالأفكار الحزينة

رأسها المحتشد بالأفكار الحزينة

02 مايو 2016
+ الخط -
حاولت، في ذلك الصباح الربيعي الجميل، متابعة طريقي في ممرّات الحديقة العامة، حيث اعتدت أن أمارس رياضة المشي، بعيداً عن ضوضاء الشارع، ونزق السواقين، وعدم إدراكهم حقيقة مرورية كونية بسيطة، هي أن الأولوية دائماً للمشاة، باعتبارهم الطرف الأضعف في المعادلة، غير أن ذلك لم يكن سهلاً لشخصٍ فضولي مثلي. كانت السيدة متوسطة الجمال التي عبرت ملامحها عن استسلامٍ كلي، بدت في أواخر الثلاثين من عمرها، وهي تجلس ساهمةً حزينةً على مقعد خشبي، حتى أنها لم تنتبه لرنين الموبايل المتواصل، المنبعث من حقيبتها الملقاة بإهمال بالقرب منها، لفت نظري أنها كانت مكتوفة اليدين، ما يعبر عن إحساسها بالعجز، بحسب خبراء لغة الجسد، بدت وكأنها تحمل هموم الكرة الأرضية قاطبةً فوق رأسها المحتشد بالأفكار الحزينة.
تملكتني الحماسة، وشعرت أنني عثرت، بعد طول انتظار، على شخصية قصصية مثيرة، تستدعي الكتابة. جلست مجاورة لها، ألقيت عليها تحية الصباح، ما أربكها قليلا.
قلت لها: الطقس جميل جداً. ابتسمت باقتضاب، أحسست أن مهمتي لن تكون سهلة. لذلك، قرّرت المغامرة وحرق المراحل واختصار كل المقدمات، وسألتها بشكل مفاجئ: أنت حزينة جدا. توقعت أن تقول لي (مش شغلك)، غير أنها بعد لحظة صمتٍ لم تطل انخرطت في بكاء مرير، ما جعلني أحسّ بالندم، حاولت تهدئتها بدون طائل، قالت بحرقة واندفاع من خلال دموعها : "نعم أنا في غاية الحزن، والقلق يكاد يفتك بروحي، مشكلتي تكبر يومياً. شارفت على الثامنة والثلاثين، ولم أزل في ضيافة والدي الذي يتصرّف مثل أي أب منكوب (بابنة حالها مايل)، على الرغم من محاولات الترويج الساذجة التي تقوم بها قريباتي.
ادّعت خالتي، مرة، بأني ست بيت ممتازة، بمعنى أنني أبدع، حين يتعلق الأمر بشؤون التدبير المنزلي من ترتيب. وفي هذا الشأن، لا أحسن إعداد فنجان قهوة، فيما نسبت عمتي لي تهمة الوداعة والطيبة والهدوء، مع أنني أكثر عصبية من قطةٍ حاصرها طفل شقي، وأثنت ابنة عمي على ميلي إلى الاستقرار والجو العائلي الدافئ، وهي تعرف جيداً كم أعشق الحياة التي تخلو من الروتين والتكرار. أما والدتي التي صارت تكثر من الدعاء، في الآونة الأخيرة، بأن يرزقني بابن الحلال، فهي تحثني على الوجود في مناسباتٍ يتوفر فيها عرسان محتملون، لأن الزواج، بحسب أمي الحنون (سترة للبنت)، باعتبارها مشروع فضيحة. وكذلك، فإن النجاح في العمل والدراسة ووجود الصديقات والانخراط في اهتمامات مختلفة لن تغني عن أهمية استقراري في بيت العدل.
صرت مقتنعةً بذلك جراء (النق) شديد اللهجة الذي يمارسونه علي أينما حللت، وتولد لدي إحساس بالإعاقة الاجتماعية، وبضرورة زواجي في أقرب فرصة، كون معظم صديقاتي تزوجن وأنجبن. لم أعد أمانع في التعرّض لمعاينة أمهاتٍ عرسان، معظمهم مطلقون أو أرامل أو مشطوبون بالكامل، من حيث المظهر والمحتوى، يطرقون بابنا للمرة الأولى، بهدف البحث عن عروس ملائمة. المصيبة أنني أفشل دائماً في المعاينة فلا يعودون.
رأى أحد عرسان الغفلة أن قامتي طويلة أكثر من اللازم، واعتقد آخر أنني أميل إلى القصر، بينما وجد أحدهم أن طريقتي في المشي تخلو من الرقة، وثمّة من تحفظ على أسلوبي في الحديث، في حين أصرّت أم أحدهم على أن هنالك خللاً ما في عيني، ما يثير الخوف من إمكانية إنجابي أطفالاً بإعاقات بصرية. والحق أنني صرت أرغب في الزواج، لأن الكل يريدني أن أفعل ذلك، ولأن المجتمع سيظل يواجهني بتلك النظرة المؤنبة، وكأنني مسؤولة بشكل شخصي عن ظاهرة العزوف عن الزواج في البلد، غير أنني أتوق إلى الارتباط برجلٍ غير سطحي، رجل يحبني كما أنا، بعيوبي وفضائلي، من دون أن اضطر إلى افتعال شيء، وأكاد أجزم أنني سوف أعيش ما تبقى من حياتي في وحدة قصوى، شأن نساء كثيرات، ينتهين وحيدات ممن فاتهن القطار، على الرغم من انتظارهن الطويل المضني على قارعة القسمة والنصيب.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.