فقه الحب، فقه التوحش

فقه الحب، فقه التوحش

07 ابريل 2016

عشق (محمد أوزجاي)

+ الخط -
سألتني قارئةٌ يافعةٌ عن الحب، وهي تصارع خجلاً يكاد يقتلها، بكلام يتلجلج عبر الهاتف، أحرام هو أم حلال؟ قلت والله إني لست فقيهاً ولا مفتياً، لكنني سأبحث، وأخبرك بما أجد، وها أنا أفعل، وأنا في ذلك كله مجرد ناقل، هاجسي في ذلك الحرص على أن لا تشيع الفاحشة بين الناس، كون هذه العاطفة امتـُهنت، وابتـُذلت، واختلط فيها الطهر والعفاف بالقبح. وثمّة هاجس آخر، ربما يكون أكثر أهميةً وخطورة، وهو متعلق بالفقه "المفضل" لدى كثيرين ممن يشتغلون بالعلم الشرعي، خصوصاً أتباع فقه التوحش، وقطع الرؤوس، والإعدامات المجانية، والمهووسين بإحياء فقه السبي، وتطويع منظومة "الحور العين" لإسالة لعاب الشباب لتفجير أنفسهم، باعتبار التفجير "الاستشهادي" أقرب الطرق للوصول إلى تلكم الفتيات الحسان. هؤلاء لا يرون في فقهنا غير جانبٍ واحد، يتركّز في استيلاد فتاوى القتل، وجزّ الرقاب، لا إحياء موات القلوب، وحثها على الحب، والحياة، وها أنا أعرض طرفاً سريعاً، من الفقه الآخر، لعل في العرض إجابةً عن تساؤل الفتاة الخجلى، وردّاً على هواة فقه التوحش.
قال أحد أتباع الإمام الظاهري إن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دوماً من باب الورّاقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه، فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني، في الجمعة الماضية، أردت الدخول منه، فصادفت عند الباب عاشقين يتحدّثان، فلما رأياني قالا: "أبو بكر قد جاء"، فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرّقت فيه بين عاشقين. وقال ابن القيم عنه في كتابه "الداء والدواء": "وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه، وهو من أكابر العلماء، وعشقه مشهور".
أما الإمام ابن حزم فيقول في كتابه "طوق الحمامة": الحب، أعزك الله، أوله هزلٌ وآخره جد، دقت معانيه لجلالها عن أن تُوصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديون والأئمة الراشدون، وكثير من الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة من قد أستغني بأشعارهم عن ذكرهم. وقد ورد من خبر عبد الله ابن عتبة بن مسعود، ومن شعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد جاء من فتيا يقصد إفتاء ابن عباس، رضي الله عنه، ما لا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: "هذا قتيل الهوى، لا عقل ولا قود".
ويستدل الإمام ابن حزم على موقفه من الحب بما رواه بسندِه، في موضعٍ آخر من "طوق الحمامة" من أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأةً فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يُملك".
ويقول خالص جلبي، وهو من العلماء المعاصرين وصاحب الكتاب "حتى يغيّروا ما بأنفسهم":
الحب ظاهرةٌ كونيةٌ، لها قاعدة كيمياوية. وينقل عن العالمة الفرنسية، كاترين دو سانت، قولها: قالوا، في الستينيات، إن الاقتراب من موضوع الحب كفيل بإفقاد أي عالمٍ مهنته كعالم، وتحويله إلى وظيفة أخرى. ولكن دراسة هذه الظاهرة التي تعتبر أقدس وأعظم عاطفة في الكون جعلت دانييل جولمان يكتب كتاباً بعنوان "الذكاء العاطفي"، يقول فيه إن الذكاء لا ينبع من اختبارات الذكاء السابقة المعروفة، بل من قاعدةٍ عاطفيةٍ لولاها لما عُدّ الإنسان إنساناً. كما ينقل عن الكاتبة الأميركية، هيلين فيشر، قولها في كتابها "تشريح الحب" إن الحب غريزة أساسية، مثل الخوف والغضب والفرح، وعن أبيقور اليوناني اعتباره أن هناك ذرّات مفصولة في الكون، تميل إلى التكامل عن طريق الحب.
وفي السنّة الشريفة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: "يا رسول الله، في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم، فنحن نحبّ الموسر، وهي تحب المعدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نر للمتحابّين غير النكاح" (قال الألباني: الحديث أخرجه ابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني وغيرهم، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم).
وعن سهل بن أبي حثمة أنه قال: "رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحال، فوق أجرانٍ لها، ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أُلقيَ في قلب امرئٍ خطبة المرأة فلا بأس أن ينظر إليها" (الحديث رواه أحمد وابن ماجة والطحاوي). وفي الصحيح، كان مغيث يمضي خلف زوجته بريرة بعد فراقها له، وقد صارت أجنبيةً عنه، ودموعه تسيل على خدّيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن عباس، ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً، ثم قال لها لو راجعته، فقالت: أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي فيه" (رواه البخاري).
وقد قال الإمام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري، تعليقاً على هذا الحديث: "فيه إن فرط الحب يُذهِب الحياء لما ذكر من حال مغيث، وغلبة الوجد، حتى لم يستطع كتمان حبها، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر من كان في مثل حاله ممن يقع ما لا يليق بمنصبه، إذا وقع بغير اختياره" (فتح الباري، ج 9، ص 325)
وقال الإمام الصنعاني، في تعليقه عليه أيضاً، "مما ذكر في قصة بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكة المدينة؛ ينحدر دمعه لفرط محبته لها. قالوا: يقصد العلماء، فيُؤخذ منه أن الحب يُذهِب الحياء، وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه" (سبل السلام، ج: 3، ص: 278). وقال عمر بن الخطاب: "لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما" (رواه ابن الجوزي بسنده). وعروة عاشق عذري، وعده عمه بالزواج من ابنته عفراء، بعد عودته من سفر للتجارة، ثم زوجها لرجل من الأثرياء.
هذا جانب يسيرٌ جداً ما وجدت، والمقام لا يتسع لأكثر من هذا، فهل أجبت سائلتي؟ بل هل من المروءة والرجولة والخلق القويم أن نهتمّ بمثل هذا الشأن، في زمنٍ يموت فيه الناس على الحواجز العسكرية وتحت أنقاض بيوتهم؟ لا أدري. ولكن، ما أدريه جيداً أنني لجأت لهذه "الاستراحة"، لفرط ما يهتم الكتاب بمجريات الحوادث السيّارة التي يغطيها لون الدم الأحمر، ولفرط ما يُمطرنا به فقهاء التوحش بفتاوى القتل والتترس والاستئصال والتكفير وإهدار دم الخلق.