مبارك وخمر السلطة

مبارك وخمر السلطة

08 فبراير 2016

مبارك يؤدي يمين الرئاسة في البرلمان (14 أكتوبر/1981/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما الذي يحدث للإنسان، بعد أن يصبح رئيساً في دولة سلطوية متخلفة؟ ما الذي تفعله به السلطة؟ هل تتغير بفعلها شخصيته من النقيض إلى النقيض؟ أم أن السلطة تقوم فقط بمساعدة السلبيات الكامنة داخل شخصيته على الظهور؟ لا تقدم يوميات الدكتور بطرس بطرس غالي، التي يحكي فيها وقائع عمله مع الرئيس المخلوع، حسني مبارك، إجابات شافية على هذه الأسئلة، لكنها تقدم ملاحظاتٍ يمكن من خلالها رصد بعض ملامح التغيير الذي حدث في شخصية مبارك، مع ملاحظة أن بطرس غالي لم ينشر أبداً يومياته في عام 1982 لأسباب غامضة، تشبه غموض شخصية بطرس غالي نفسه، خصوصاً أن ذلك العام تحديداً كان يمكن أن يقدم تفاصيل مهمة لتحولات شخصية مبارك، بعد أن ملأ يده من السلطة أكثر.

في يوميات عام 1983، يروي بطرس غالي، وبتاريخ 22 فبراير، واقعة ظهرت فيها ملامح مبكرة لضيق مبارك بالرأي المعارض له، خصوصاً إذا كان رأيا منشوراً في الخارج، ويمكن له أن يؤثر على علاقات مبارك بالأميركان الذين ورث مبارك عن سلفه السادات إيمانه بأنهم يمتلكون 99% من أوراق اللعبة. حدث ذلك، حين قرر مبارك ألا يحضر حفل تخرّج ابنه البكر علاء من الجامعة الأميركية في القاهرة، لمجرد أن رئيس الحفل سيكون البروفيسور الأميركي، مايكل كير، الذي انتقد سياسات مبارك، في مقال نشرته له صحيفة أميركية، وألمح مبارك لبطرس غالي أنه سيحضر الحفل، لو قام بطرس غالي برئاسته، وهو ما نقله بطرس لرئيس الجامعة الأميركية، الذي اعتبر تلميح الرئيس طلباً يستوجب التلبية، فأبعد البروفيسور الأميركي عن الحفل الذي رأسه بطرس، الذي لم يكن أصلاً قد سبق له التدريس في الجامعة الأميركية.

في العام التالي، وبالتحديد في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1984، يروي بطرس غالي أن مبارك كان واسع الصدر بشكلٍ أدهشه، خلال تلقيه أسئلة الطيارين الشبان في قاعدة أنشاص الجوية، الذين سألوا مبارك أسئلة كان محظوراً على الصحافة أن تسألها له مثل "هل أنت رئيس للأغنياء أم للفقراء؟ ومتى ستطلق سراح البابا شنودة؟ ومتى تنوي تطبيق الشريعة في مصر؟". كتب بطرس معلقاً على ذلك: "أعجبتني شجاعة هؤلاء الشبان العسكريين، والاهتمام الذي أبدوه بالسياسة، من يعرف، فربما سيكون بينهم من يسعى يوماً للوصول إلى الحكم"، وهو سؤال ستجد نفسك تعلق عليه بسؤال "ومن يعرف من بقي منهم أصلا في القوات المسلحة، ولم يتم زحلقته من الخدمة بعد انتهاء الاجتماع".

بعد ثلاثة أعوام، وفي 29 سبتمبر 1987، يروي بطرس غالي أن مبارك، بعد أن شهد تقديم سفراء جدد، كان مزاجه ممتازاً، فأخذ يتحدث مع بطرس عن السلطة بمرح، فقال له بطرس "إنها تدير الرأس مثل الخمر القوية"، فرد عليه مبارك رداً يظهر استنكاره لما قال، إلى درجة أنه لم ينتبه إلى المجاز الذي قاله بطرس، حيث قال: "أنا لا أشرب الخمر". لم يعلق بطرس طبعا، لكن بطرس غالي كان في ذلك اليوم على ما يبدو في مزاج تأمل لما تحدثه السلطة من تغييرات في نفوس البشر، فسأل رئيس زامبيا، كينيث كاوندا، الذي كان يمر بالقاهرة "ألم تُدِر السلطة رأسك؟"، فانفجر كاوندا ضاحكاً، وقال له رداً شديد الدلالة "عندما تقتسمها مع الغير لا يمكنها أن تدير رأسك". وعلى الرغم من أن الحذر من وقوع المذكرات في يد أحد، دفع بطرس غالي "الحويط" للإشادة بعدم تغيير السلطة مبارك، إلا أنه كتب معلقاً على ما حدث بصيغة مفعمة بالدلالات: "احترامي للرئيس كاوندا منعني من التعقيب على ما قاله، فالسلطة الحقيقية غير قابلة للقسمة، كم من رؤساء دول، وكم من الوزراء، كانوا بسطاء للغاية، لكنهم تبدلوا تماماً عندما وصلوا إلى السلطة، فأصبحوا يستمعون لأنفسهم أكثر من استماعهم للغير، ويقاطعون محدثيهم... وأصبحوا يتصفحون الجرائد بعصبية، باحثين عن أسمائهم وصورهم".


مع مرور اليوميات من عامٍ إلى آخر، يبدو مبارك وهو يتلبس، يوماً بعد يوم، شخصية الفرعون الذي لا ينازعه أحد في قراراته، ولا يجرؤ أحد على مشاركته، أو مراجعته، فيها، فنرى بطرس غالي يتوقف بالتعليق عند اليوم الذي يكون فيه مزاج مبارك طيباً ورائقاً، لكي يمكن له أن يفاتحه في اقتراحات أو مشاريع زيارات خارجية، كأن روقان مزاج الرئيس حدث يستحق التسجيل، ونرى كيف يفضل مبارك الاستماع إلى تقارير أجهزة المخابرات، حتى لو كانت مناقضة للمعلومات التي يقدمها المتخصصون في الشؤون الخارجية، وكيف يتشبث بآرائه الشخصية، حتى لو كانت تقف ضد المصلحة العامة للبلاد، فيرفض، مثلاً، في عام 1987 إقامة أي علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية، لكي لا يغضب كوريا الشمالية التي أعطاها كلمةً بألا يقيم علاقة مع خصمها الجنوبي، تقديراً لوقوفها إلى جوار مصر في حرب أكتوبر، على الرغم من أن بطرس غالي يشرح له أن وجود علاقات مع كوريا الجنوبية سيكون مهماً جداً لمصر، ولن يجعل كوريا الشمالية تقطع علاقتها بمصر، لأن العالم كله يقيم علاقات مع كوريا الجنوبية التي كانت في إطار التحول إلى نمر آسيوي، وكان يمكن لمصر أن تستفيد من علاقتها بها الكثير. والمؤسف أن مصر لم تقم أيضا بالاستفادة عسكرياً أو اقتصادياً من علاقتها بكوريا الشمالية، لعدم رغبتها في إغضاب الولايات المتحدة.

نرى أيضا في اليوميات كيف أصدر مبارك قراراً في أبريل/نيسان 1985 بطرد طيارين عسكريين هنود، كانوا يتلقون تدريبات سرية في مصر، من دون أن يقدم للهند أي تفسير أو إنذار مسبق. وعندما شكا وزير الخارجية الهندي ما حدث لصديقه بطرس غالي، وطلب منه المساعدة في التفسير، معلنا استعداده لمعاقبة الطيارين، إذا ثبت وجود جواسيس بينهم، وعده بطرس بالتفسير، واجتمع مع كبار ضباط الجيش، فلم يجد لديهم أي معلومات، وعندما فشل في العثور على تفسير، رجح أن يكون ذلك الطرد قد تم بضغوط من المخابرات الأميركية أو الإسرائيلية، لدفع مصر إلى تجميد التعاون العسكري مع الهند، والذي يقول غالي إنه لو كان قد استمر لكانت مصر قد حصلت على القنبلة النووية، أو قامت بتفعيل برنامجها النووي على الأقل، ثم يكتب غالي أنه سيواصل البحث عن أسباب عدم تفعيل اتفاقية التعاون بين مصر والهند، والتي تم إبرامها سنة 1956، لكنه لا يعود إلى ذكر الموضوع نهائيا بعد ذلك. 

في موضع آخر، يروي غالي أنه أكد لمبارك كثيراً أهمية اللجوء إلى الطاقة النووية، لأن موارد مصر البترولية ستنفد خلال عشر سنوات، إلا أن مبارك، كما يروي لنا بطرس غالي، أهدر، في فبراير/شباط 1986، فرصة خطيرة، كان يمكن أن تغير مستقبل مصر في مجال الطاقة، عندما عرض عليه رئيس الغابون، مارتن بونجو، وضع مخزون اليورانيوم الخاص ببلاده تحت تصرف مصر، إذا قرّرت بناء محطات نووية، فرفض مبارك الطلب، قائلا إن مصر ليس لديها الأموال اللازمة لبناء هذه المحطات، مع أن غالي يجزم بأن ذلك كان ممكناً بالتعاون مع الهند وباكستان، لو قرّر حسني مبارك أن يتصرف، من دون مراعاة للرضا الأميركي، وهو ما جعله مثلاً يوقف بطرس غالي عن زيارة موسكو تسع سنوات كاملة، لكي لا يغضب الأميركان، مع أن الإدارة الأميركية لم تطلب ذلك صراحة، ومع أن تمتين العلاقات مع موسكو كان يمكن أن يكون ورقة استراتيجية، تستخدمها مصر للضغط على الولايات المتحدة، لكن مبارك قرّر أن يتمادى في إرضاء الأميركان، فيعطيهم ما لم يطلبوه أصلاً. أما موضوع الطاقة النووية الذي ظل مبارك يغض النظر عنه سنوات، فقد تحول فجأة إلى أولويةٍ مصريةٍ عاجلة، حين أسكرت خمر السلطة جمال مبارك، فقرّر أن يستغل المشروع النووي في عام 2007 ضمن حملة تلميعه وريثاً مرتقباً، وتلك قصة أخرى. 

جزء من كتابي (تحت حكم الفرد) يصدر قريبا بإذن الله

 

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.