في مواجهة الفوضى

في مواجهة الفوضى

08 فبراير 2016
+ الخط -
لم يعد المشهد العربي بسيطاً، وليس من الممكن فهمه بثنائية الأبيض والأسود، فقد تسارعت الأحداث خلال السنوات الأخيرة، وتعقّدت الأمور، واختلط الحابل بالنابل، وبات فهم ما يجري وقول رأي فيه بحاجة إلى موقف مُركَّب، لتحرّي الدقة من جهة، والاتساق مع الذات والمرجعية الفكرية من جهة أخرى. لذلك، التبسيط والارتجال يؤديان عادةً إلى غياب الفهم، والعيش في الوهم. نحن في حالة فوضى، وهذا واضح، ويبدو أن هناك اتفاقاً واسعاً اليوم على هذا التوصيف، لكن جُلَّ النقاشات العربية تبحث في الأسباب، وصولاً إلى البحث عن علاج. وهنا، تظهر الاختلافات في التشخيص وطرح مقترحات العلاج بين زوايا مختلفة في رؤية هذه الفوضى وأسبابها وتداعياتها.
قامت الثورات والانتفاضات على امتداد الوطن العربي، للمطالبة بتغييرٍ في المنظومة القائمة، لكن الثورات تراجعت، وبدأت الفوضى تهيمن على المشهد. يرى بعض خصوم الربيع العربي، وآخرون غيرهم، أن هذا الربيع هو جالب الفوضى، لكن الثورات والفوضى التي تلتها ليست إلا نتيجة لانهيار شرعية الدولة في الوطن العربي. كانت شرعية الدولة العربية تنطوي على إشكالاتٍ عديدة، منذ نشوء النظام العربي الحالي قبل مائة عام. لكن ما حصل في العقود الثلاثة الماضية، ضرب كل مصادر الشرعية الممكنة للدولة العربية، ما أدى إلى مراكمة احتقان تفجّر في السنوات الخمس الماضية.
لم تتمكن الدولة العربية من بناء هويةٍ وطنيةٍ تجمع مواطنيها، ولا من تحقيق سيادة القانون وحفظ الحقوق، ولم تستطع بناء مؤسسات دولة قوية، لكن السلطة في عدد من البلدان العربية، في العقود الثلاثة الأخيرة، ضربت كل محاولات النهوض والتحديث وبناء المؤسسات التي قامت في الخمسينات والستينات، بما يمكن تلخيصه في نقطتين: تتعلق الأولى باعتبار العائلة والعشيرة حارسةً للسلطة، والاستغناء حتى عن الأحزاب الأيديولوجية الحاكمة، وتفريغها من مضمونها، لمصلحة العائلة وحكمها، بما أدى إلى تعزيز حضور الجماعات الأهلية بأنواعها في الشأن العام، وجعلها، في أحيانٍ كثيرة، وسيطاً بين المواطن والدولة. كذلك، حصلت خصخصة تحت عنوان الانفتاح والتحديث الاقتصادي، قادت إلى احتكار النخب المرتبطة بالعائلة للموارد الأساسية، وبيع قطاعات الدولة لرجال الأعمال القريبين من السلطة، ضمن سياسات احتكارٍ اقتصادي، ساهم في توسيع الفوارق الطبقية بين الناس، وضرب كل شرعية اقتصادية للدولة.

النقطة الثانية هي الفراغ الأيديولوجي الذي تركه التخلي عن حكم الأحزاب الأيديولوجية لمصلحة العائلة والعشيرة، والتخلي عن القضية الفلسطينية، وعن شعارات معاداة الاستعمار والصهيونية ومواجهتهما، والعمل على تحقيق الوحدة والتكامل العربيين، فلم يعد هناك مشروع أيديولوجي يمكّن للدولة أن تعبئ الناس من خلاله. وهذا ساعد على خسارة الدولة مصدر شرعية أساسي، وأداة توحيدية لشعبها، في مواجهة العدو الخارجي، وأصبحت مهمة السلطة تتلخص فقط في حفظ الاستقرار، وزيادة جرعات القمع لتثبيت الأمن.
أدى تآكل الشرعية إلى انفجارٍ ظهر على شكل ثورات وانتفاضات، لكن عدم قدرة هذه الثورات على إحداث التغيير دفع إلى الفوضى التي ساهمت فيها شراسة النظام القديم، وثورته المضادة، كما ساهمت فيها القوى التي انبرت لملء الفراغ السياسي والأيديولوجي، وتحديداً الحركات الجهادية، والانقسامات التي أفرزت هذه الحركات وغيرها، ونعني الانقسامات الأهلية على أسس جهوية وطائفية وعشائرية، وهي نتيجة لانهيار الدولة ومؤسساتها وشرعيتها.
لا بد من العودة إلى الدولة وانهيارها لفهم ما يجري من فوضى، غير أن المسألة لا تقتصر على عوامل التفجير الداخلي للدولة، بل تتعدّاها إلى تضافر العوامل الداخلية هذه مع عوامل خارجية، يجري إغفالها في بعض التحليلات، فالاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، كان بداية لحالة فوضى أرادتها الولايات المتحدة خلّاقة، لكنها لم تكن كذلك، وهي أثرت كثيراً على عموم المنطقة. وهنا، لا بد من تسجيل مساهمة حالة مثل "داعش" في تعزيز الفوضى، وهي منتج للاحتلال الأميركي، وعمليته السياسية الطائفية، وليست نتاجاً للربيع العربي. صحيح أن الغرب اليوم يعيش تخبطاً بخصوص أوضاع منطقتنا، وليست لديه خطة محددة وبدائل جاهزة للواقع القائم، كما قد يتصور بعض المحللين، لكن هذا لا ينفي مساهمته، عبر تدخلاته المباشرة أو غير المباشرة، في ضرب روح الثورات، وتحويل بلدانها إلى ساحات معارك إقليمية ودولية، وتدمير المجتمع والدولة في بعض هذه البلدان.
البحث عن جذور الفوضى يحيل إلى شرعية الدولة العربية، كما يحيل إلى الفراغ العربي، المتمثل في غياب المشروع والرؤية، وتحوّل الدول العربية إلى ساحات لصراع المشاريع الإقليمية والدولية، وأرض خصبة لأنواع التدخلات الخارجية. وهذا يشير إلى أهمية معالجة الفوضى، عبر مشروع عربي توحيدي، يتسامى عن الطائفية، ويعمل على إنهاء الانقسامات الأهلية، ولملمة شتات المجتمعات العربية، وإعادة تأسيس شرعية الدولة العربية على عقد اجتماعي جديد، يحفظ حقوق المواطنين، ويعزز ثقتهم ببعضهم عبر الهوية العربية الجامعة، والمؤسسات المفتوحة للجميع، ويعيد الاعتبار لمواجهة الصهيونية، ليس فقط باعتبارها عامل توحيد للجماعات الأهلية، بل أيضاً لأن الحالة الاستعمارية الصهيونية عائق حقيقي أمام أي نهوض عربي.
لن ينجح أي مشروع في إنهاء الفوضى، ما لم ينتبه لحاجة الناس لتغيير واقعهم، وكل مشروع يحمل رايةً طائفية يزيد الفوضى ولا ينهيها.

دلالات

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".