رايات الربيع العربي

رايات الربيع العربي

08 فبراير 2016
+ الخط -
وسط كل ما يدور اليوم من تداعيات "الربيع العربي"، ثمّة تفاصيل يمكن التقاطها، بعيداً عن المسارات والمآلات لثورات حلمت بها الشعوب، وأرادتها سبيلاً للانعتاق من الاستبداد، لكنها لم تنجح بعد. من ذلك، مثلاً، ما يمكن قراءته في سعي الثورات إلى استعادة أعلام استقلال بلدانها عن الاستعمار الأوروبي، واستعمالها راياتٍ للثورة في مواجهة أنظمة الحكم التي كانت قد أبدلت علم الاستقلال، عقب وثوبها إلى السلطة في انقلابات عسكرية، كما في ليبيا وسورية؛ فذلك يعني أن هذه الثورات أرادت القول، ضمناً، إنها تريد إلغاء سنوات حكم تلك الأنظمة الاستبدادية من تاريخ الأوطان، والعودة إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، علّها تواصل بناء بلدانها من تلك النقطة.
كأن في هذا السلوك، وفي تأييد الشارع العربي له، في بلدان الثورات نفسها وخارجها، اعتذاراً جماعياً ضمنياً عن مرحلة نحو 40 عاماً، امتازت باستعمال أسلوب الانقلابات وشعارات القومية والتقدمية، لفرض أنظمة حكم استبدادية، تنتهي ليس إلى حكم الفرد فقط، بل إلى حكم القبيلة أو الطائفة، كما فعل القذافي في ليبيا، والأسد في سورية، وصدّام في العراق، وعلي صالح في اليمن، ونظام مبارك وريث السادات، الذي قال عنه المصريون، يوماً، إنه كان يمشي على خطى عبدالناصر "بأستيكة" (ممحاة)!
لعل ما أراده هذا السلوك، إذن، ليس الاعتذار عن المرحلة التي رُفعت فيها شعارات القومية والاشتراكية والتقدمية، بل عن المرحلة التي استُعملت فيها تلك الشعارات ستاراً لحكم العائلة والقبيلة والطائفة، فكانت "كلام حق يُراد به باطل"، فمرحلة "الأنظمة القومية"، إن جاز التعبير، بدأت في معظم البلدان العربية بعد قليل فقط من الاستقلال، وعلى أيدي أنظمةٍ وصلت إلى السلطة في انقلاباتٍ أيضاً، قادها ضباط شباب متحمسون للتحديث والتحرير، لكنهم تعرّضوا تالياً لانقلاباتٍ جديدة، نفّذها، على الأغلب، زملاء لهم، لأسباب قالوا إنها "تصحيحية"، مستعملين أسلوب "البيان رقم 1" نفسه، والشعار القومي والتقدمي نفسه، فمكثوا في السلطة عقوداً طويلة، ثم ورّثوها، أو كادوا، لأبنائهم الذين ولدوا وعاشوا مترفين باعتبارهم "أولاد السيد الرئيس".
هكذا، اكتشف العرب أن في تاريخهم المعاصر عقوداً ضائعة، تعطّلت فيها مسيرة التحديث القائمة على أفكار الاستقلال: الحرية، والعدالة، والوحدة العربية، والتصدّي للإمبريالية. أضعنا أربعين عاماً من تاريخنا تحت سياط الاستبداد، فكان أن أُهدرت الثروات العربية في حروبٍ لا طائل منها، كحرب العراق مع إيران، وحروب صدّام مع طواحين الهواء، فيما واصلت إسرائيل تمدّدها، وظفرت باعتراف العرب، وباتفاقيات سلام معهم. وتبدّدت مشاريع بناء خطط تنموية طويلة المدى، تحدّث طرق إدارة الدولة، فضلاً عن تحديث هياكلها، وتطوير منظومة الثقافة الوطنية لدى الشعوب العربية باتجاه قيم الحرية والتعددية واحترام الاختلاف، والمواطنة والالتزام بالقانون، والتطلع إلى المستقبل عوضاً عن الماضي وأحلامه وأوهامه.
اكتشف "الثوّار" ذلك، فاستعاد الليبيون علم الاستقلال، ذا الألوان الثلاثة والهلال والنجمة، عوضاً عن راية القذافي الخضراء. وحاول السوريون استعادة علم استقلالهم، ذي النجوم الثلاث الحمراء والثلث الأخضر، لكن مخرجات الربيع العربي لا تنبئ، بعد خمس سنوات على اندلاعها، بأن العرب سيتجاوزون أخطاء العقود الأربعة الماضية، ليحاولوا اللحاق بما فاتهم، وهو كثير، فذلك كان رهناً بحصر أخطاء تلك العقود وتجنّبها، لكن الحاصل اليوم مراكمة أخطاء جديدة، قوامها تعمّق الطائفية والجهوية والقبلية، ومبدأ المحاصصة الذي يكرّس الثقافة الأبوية في المجتمعات العربية، ويعطي السلطة لرموز الطائفية والقبلية، ما يهدد بإضفاء معنى سلبي على رايات الاستقلال، التي ظلت من قبل مدّخرة لمعاني الحرية.
منحنا التاريخ فرصةً ربما أخيرة، وكان يُستحسن أن نتذكّر، بعد أن اعترفت ثورات الشعوب بإهدارنا أربعين عاماً من "شبابنا"، أين وصلت دولٌ لم تهدر تلك العقود، في أفريقيا وآسيا، وحجم الجهود "المكثّفة"، التي علينا أن نبذلها إن أردنا، حقاً، تجاوز هذا التأخير الحضاري، ابتداءً من مفارقة الثقافة الأبوية، بتجلياتها الطائفية والقبلية والجهوية، وليس انتهاءً بتجاوز الخلافات السياسية العربية التي ظلت تفرز حروباً باردة بين الأنظمة، أعاقت أي شكل حقيقي من التكامل العربي، بما في ذلك الاقتصادي الذي تُبنى عليه خطط التنمية الشاملة.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.