حرب أهلية باردة في إسرائيل

حرب أهلية باردة في إسرائيل

11 فبراير 2016

مقتل رابين مثل ذروة الحرب الأهلية الإسرائيلية الباردة (Getty)

+ الخط -
"... ليفني أشارت إلى أن مجموعات متطرفة أخرى تريد أن تحول إسرائيل إلى دولة شريعة، الأمر الذي سيؤدي بإسرائيل إلى الهاوية، لافتة إلى أن هذا الوضع بحد ذاته هو نهاية الصهيونية". يعود تاريخ هذا التصريح إلى 10 يناير/كانون ثاني 2013‏. اليوم، ثمّة تعديلات قانونية يدرسها الكنيست لاعتماد التوراة مصدراً أول للقانون، خصوصاً في المسائل التي لا يوجد فيها نص قانوني.
ما يجري في إسرائيل اليوم انقلاب على الأسس التي قامت عليها، ووضعها الآباء المؤسسون للصهيونية، وأغلبهم، إن لم يكن كلهم، علمانيون، لا يؤمنون بإله. إسرائيل اليوم تهذي، والهذيان يتحول إلى تشريع، على حد تعبير النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي، أيمن عودة، فثمة تشريع في الكنيست يلزم القضاة باستلهام "فتاوى التوراة" ونصوصها، في القضايا التي لا ينص عليها القانون المدني.. (وهو مشروع قانون بادر إليه رئيس لجنة الدستور، نيسان سلوميانسكي، ويقضي بأن يستند القضاة إلى مبادئ القضاء العبري في الحالات التي لا يكون فيها حسم واضح في التشريع، أو في قرارات المحاكم. وبلغة أكثر وضوحاً: إحلال القانون الديني على القانون المدني، وبث روح منعشة في رؤيا دولة الشريعة، حسب تعبير كاتب إسرائيلي).
بذرة الهذيان الصهيوني زرعتها العقلية الفاشية لقادة وآباء بني إسرائيل الجدد، حينما استباحوا الدم الفلسطيني، وأخرجوا "الأغيار" من دائرة الإنسانية، وما لبثت هذه البذرة أن نمت واستوت على سوقها، إلى أن أصبحت جزءاً من ذهنية اليهودي "الجديد" الذي تربى في بيئةٍ عنصرية، حيث بدأ ينظر إلى معارضيه في الرأي جزءاً من منظومة الأعداء، وأصبح "اليساري" في نظر المتديّن هدفاً مشروعاً للقتل. ويبدو أن لحظة اغتيال اسحق رابين في الرابع من نوفمبر/تشرين ثاني 1995 على أيدي يهودي من أتباع اليمين المتطرف، لدى مغادرته مهرجاناً حاشداً لتأييد عملية السلام تحت شعار "نعم للسلام لا للعنف"، هي التدشين الحقيقي لعملية طويلة ومعقدة، لتحويل كيان العدو من "واحة ديمقراطية" إلى دولةٍ تحكمها عصابات من المتدينين.
"أنا إرهابي فخور"، هذا عنوان مقال كتبه الحاخام مائير ديفيد دروكمن، أبرز المرجعيات اليهودية. وصف فيه اليهودَ الذين يقتلون العرب بـ "الصديقين"، وطالب دروكمن الحكومة الصهيونية بمنح أوسمة لمن ينفذ اعتداءات على الفلسطينيين، بصفتهم ينفذون تعليمات الرب. ليس هذا فحسب، بل طالب بإحراق كل المدارس التي يدرس فيها الطلاب اليهود وغير اليهود
("هآرتس"،14-1-2015) بحسب معطيات شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي، فإن 60% من الضباط في الوحدات المقاتلة والمختارة في الجيش الإسرائيلي هم من المتدينين، المنتمين للتيارات الدينية الصهيونية المتطرفة، والذين يخضعون للمرجعيات الروحية الأكثر تطرفاً في هذا الكيان (المعلومات السابقة وردت في تقرير لشعبة القوى البشرية في الجيش نشرت في 15-10-2014) معظم قيادات جهاز المخابرات الداخلية باتوا من المتدينين، وتعاظم تمثيل المتدينين في الموساد جعله يعين حاخاماً للإفتاء لهم قبل تنفيذهم عمليات.. حاخامات يهود يدعون إلى لف جثث الفلسطينيين الذين يسقطون في المواجهات مع الاحتلال بجلود خنازير، لردع غيرهم، على اعتبار أن من يلف بجلد الخنزير لن يدخل الجنة! أما الحاخام شموئيل إلياهو فيقول: يجب شنق أبناء كل فلسطيني نفذ عملية فدائية ضدنا في قلب القدس، على شجرة بارتفاع 50 متراً. ويقول الحاخام مردخاي إلياهو، أكبر مرجعيات الصهيونية الدينية: كل طالب في مدرسة دينية يهودية يساوي أكثر من ألف عربي. وثمّة فتوى للحاخامات تقول إنه ليس شرطاً أن يقوم الفلسطينيون بعمل ضد اليهود، حتى ننتقم منهم، بل تكفي دلائل على أن لديهم نية بذلك. وكذلك يرى الحاخام إ .روزن، أهم مرجعيات الإفتاء اليهودية، أن "شريعتنا تجيز قتل بهائم الفلسطينيين، فهذا ما فعله يوشع بن نون بالعماليق. وورد في مجلة كل الأسرة، الناطقة بلسان التيار الديني الصهيوني، إن التوارة تبيح إقامة معسكرات إبادة لأعداء إسرائيل.
هذا هو منطوق ما يعتقده غلاة المتدينين الإسرائيليين بشأن المصير الذي يجب أن يلاقيه الفلسطينيون. ومع تطور هذا الاعتقاد، وتغلغله في الوجدان "المتدين"، بات اليساري العلماني، أو أي يهودي معارض، جزءاً من منظومة الأعداء. ولهذا، نرى كاتباً يسارياً، مثل أوري مسغاف، يكتب مقالاً غاية في الأهمية عن هذه الظاهرة الجديدة، (هآرتس – 31 /1 /2016) بعنوان "إبن اسرائيل"، يتحدث فيها عن حربٍ أهليةٍ صامتةٍ تدور في (إسرائيل) منذ عشرين عاماً، حيث يقول: "إسرائيل توجد منذ عشرين سنة في حربٍ أهلية. ويمكن وصفها بحربٍ أهليةٍ باردة على الرغم من أنه يرافقها العنف أحياناً، والذي كانت ذروته مقتل رئيس الحكومة في ميدان المدينة (رابين)، بعد أن وسم "خائناً". كان هذا تصريحاً واضحاً للنوايا. وعلى الرغم من ذلك، يتم الصمت على هذه الحرب. هذا لا يعني أنها غير موجودة، بل يعني أنها صامتة "إلى أن يقول، في نهاية المقال، بما يشبه النبوءة: الحلم انتهى. الشخص المستقيم يجب أن يقرّر أين يقف. اللهجة الكلامية مهمة: هذه حرب أهلية، وليست حرب أخوة. نفتالي بينيت لا يمكنه أن يكون أخي. إنه يسعى إلى إنهاء وجودي. إنه إبنك يا إسرائيل.
نُشر في الصحافة العبرية، قبل أيام، مقال لكاتب إسرائيلي يعقد مقارنة بين إسرائيل وداعش، ويخلص إلى أن ثمة وشائج قربى كثيرة بين الفقه الذي يحكم "دولة داعش" والتشريعات اليهودية التي يريد المتدينون أن تحكم إسرائيل. الفرق بين "الدولتين" كبير، فثمة تحالف دولي لمحاربة داعش، أما إسرائيل، فثمة تحالف أشد وأقوى، ليس لمحاربتها، بل لدعمها وتقويتها. ولهذا، لن يكون هلاكها على يد هذا التحالف، بل بفعل تلك الحرب الأهلية الباردة الدائرة بشراسة. ولكن بصمت، والمؤذنة بانتهاء حلم إسرائيل.