اعتقال الخيال السياسي

اعتقال الخيال السياسي

15 ديسمبر 2016
+ الخط -
الأسبوع الثالث من ديسمبر قبل ستّ سنوات، كان أسبوع انطلاق شرارة الثورة التونسية. الأسبوع الثالث من ديسمبر لعام 2016 هو أسبوع دكّ آخر معاقل الثورة السورية في حلب. هذا وتشتهر المنطقة العربية بقدرتها الفذّة على ممارسة الاعتقال، اعتقال الـمُدُن والكتابات والأديان والفضاء العام، واعتقال الناس. ومن بين كل أنواع الأدب، تميز الأدب العربي المعاصر بإسهامهِ في التراث العالمي بأكداسٍ من أدب السجون ومُذكّرات المعتقلين السياسيين، لكنها تتميز خصوصاً بقدرتها على اعتقال الخيال السياسي الذي يأخذ شكل التدمير المنظّم لقدرة الناس على تخيّل معنىً مختلف للدولة، ودور مختلف للحكم، وعلاقة مختلفة بين المواطن والمنظومة السياسية. قبل ستّ سنوات، كانت نسبة قليلة من العرب قادرةً على تخيّل الثورة، لكنها عندما فعلت، كانت تتخيلها تغييراً إلى الأفضل، وما حدث في السنوات الماضية أنتج نسبةً أكبر بكثير من العرب، قادرة على تخيّل الثورة، لكنها تتخيلها كارثةً تخشى وقوعها، كانزلاقٍ في الجحيم مقارنةً بالواقع، وهذا يعني أن الواقع الاستبدادي الذي يخترق المنطقة أصبح، بالنسبة إلى شعوبها، بمثابة الفردوس، وهذا هو اعتقال الخيال، وكل الجهود العريضة التي بُذلت، إنما بُذلت لاعتقالهِ في هذه النقطة بالذات، نُقطة الخوف من تخيّل التغيير، والندم على الثورة، أو "ليتها لم تكن"، كما عبّر عنها الشاعر السوري منذر المصري، الأسبوع الماضي.
يُعتقل الخيال من خلال الخوف من النماذج والتجارب الأقرب. مجادلة "نحن أحسن من سورية والعراق" في مصر لم تعد منطقاً سلطوياً نخبوياً، بل يبدو أنه يخترق المجتمع أفقياً وعمودياً بلا تمايز، ومن تخيلوا الثورة في مصر يُعاقبون منذ الثورة بلا هوادة. وفي الخليج، يشعر الناس بصدق أنهم "أحسن من سورية والعراق ومصر واليمن" مجتمعة، وأنّهم في مأمنٍ من الفوضى، ما داموا لا يتخيّلون واقعاً سوى واقعهم، على الرغم من أنهم لا يملكون أدنى تصوّر عن مصيرهم في المستقبل القريب. وكلما انهارت دولةٌ في المنطقة، انهارت حدود المُخيّلة
العربية إلى مستوىً أدنى، إلى مستوى الحمد والشكر على وجود سقف البيت وماء الاغتسال وكهرباء للضوء وطعام للجوعى وبقاء الأحبّة على قيد الحياة. لكن، هل استسلام مُخيّلة العربي مفتاح الاستقرار وضمانة الأمن والأمان؟ يستميتُ السياسيّ، كي لا يتخيّل المواطنون واقعاً سوى واقعه. لكن، من ينقذ مصير الدولة من مُخيّلة السياسيّ العربيّ نفسه، من جمودها، من محدوديتها، من تمركزها حول أناه الضيقة، وحول حُكمه وعائلته وطائفته، ومن فشلها في تخيّل مصدر للتهديد والخطر سوى الشعب؟ استعمل السياسيون في الخليج، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، "الخطر الإيراني" والمخاوف الطائفية ضمن خطابهم الموجّه إلى الداخل، من أجل ضبط المواطنين، لكنهم فشلوا في تخيّل الخطر في الخارج بطريقة جدية، وسخّروا جهودهم في السنوات الحاسمة لإيقاف صعود "الإخوان المسلمين"، حتى وجدوا أنفسهم أمام إيران في سورية واليمن. وبقيت الأنظمة الجمهورية تتوحّش ضد أحلام مواطنيها بالتغيير، بحجة حماية الدولة وسيادة الدولة، حتى انتهت إلى فقدان السيادة وتشريد المواطنين وتحويل البلاد إلى بؤرة عبثٍ دولي. داس "المستعمر الوطني" أخيلة الناس حول الحرية، حتى انتهى إلى استجلاب "المستعمر الغازي". ولام العالمُ العربَ على الجمود والتخلف، فلـمّا تخيّل العربي لنفسه واقعاً أفضل، اكتشف أن العالم، ونظامه الدولي ككل، أشدّ فساداً من أن يدعم هذا الخيال.
هجاء الثورة والخيال المفضي إليها، من أسهل الأعمال اليوم، لكن الممكن الذي حلمت بهِ الثورة كان قادراً على إيقاف الممكن المخيف الذي نواجهه اليوم. لو كانت الديموقراطية في مصر قد أخذت طريقها كاملاً، لربما أنتجت نظاماً لا يندفع في حربه مع "الإخوان" إلى حدّ التحالف مع الأسد. لو خرج علي عبدالله صالح من اليمن محترقاً بلا فرصة للعودة، لما وجد الحوثيون سبيلهم إلى عدن. ولو حصل الثوار السوريون على الدعم غير المشروط بالضوابط الأميركية، لما وزّع قاسم سليماني الحلوى في حلب. ثمّة عاقبة لكبت أحلام الناس بحياة أفضل تأتي على هيئة انفجار أسوأ من الحاضر بكثير. صحيحٌ أننا اليوم نعيش تحت أسقفٍ آمنة نسبياً، صحيحٌ أن الكهرباء لا تنقطع، والماء وفير، ولا نخشى الموت احتمالاً يوميّاً. صحيح أننا اليوم بخيالٍ مُعتقل لا نستطيع أن تخيّل ثورةٍ تنتصر، لا نستطيع أن نتخيّل دولاً مُستقلة، ولا مستقبلاً واعداً، ولا نُخباً سياسية مُتجدّدة، ولا نتخيّل حرّيتنا في الهتاف ولا في الكلام. صحيح أننا "أحسن من سورية والعراق"، لكن صحيح أيضاً أننا صرنا قادرين على تخيّل أنفسنا في مواجهة التوسّع الإيرانيّ المتوحّش، وكوابيس مفتوحة على المجهول. نتخيّل، أو نُبصر.
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع