في وصف مصر المحبطة

في وصف مصر المحبطة

14 يناير 2016

سوق في القاهرة (10اكتوبر/2015/Getty)

+ الخط -
لأن القاهرة تختصر مصر بكل ألوان الطيف البشري والاجتماعي والطبقي والجهوي، وتحتضن، مع ضواحيها، ثلث سكان مصر، فقد استحقت المدينة أن تحمل اسم مصر، الذي يطلقه المصريون عليها.
في القاهرة، تحتار في تفسير مشاهد كثيرة، وتعتاد مشاهد غريبة أخرى، تفقد مع الوقت غرابتها. أن تكون في القاهرة من الطبيعي جداً أن ترى بشراً ينامون في الشوارع، إلى درجة تشعر فيها أنك لو نمت في الشارع فهذا طبيعي للغاية. وليس من الغريب أن ترى في شوارع القاهرة من يجرّ كلباً مُشترى بمبالغ طائلة، يعبر إلى جانب النائمين في الشارع، من دون أن يلتفت إليهم وكأنهم غير موجودين. هناك رأفة في الحيوان، لكن آلام البشر عند هؤلاء غير مرئية. تحتار في تفسير الكم الهائل من الشقق السكنية الفارغة، وتستغرب الكلام عن أزمة السكن، تشعر أن مصريين قليلين يملكون كل هذه الشقق، وليس لملايين المصريين مأوى سوى الشوارع. مشاهدات كثيرة تجعلك تعرف أن السكن في المقابر أصبح ترفاً. الفقير المصري اليوم غير قادر على ممارسته، فسكان المقابر أصبحوا شريحةً، أوضاعها أفضل بكثير من ملايين المصريين الذين بلا مأوى، أو سكان مراكب النيل، فالزمن الذي كان فيه سكان المقابر في مصر يشكلون القاع الاجتماعي ولى.
لأن الحياة تستمر في ظل الفقر، على الفقير أن يعيد اختراع حياته، وأن يجد المتع الصغيرة، فتجد سوقاً للمتع، تغطي هذه الاحتياجات، وتتناسب مع الإمكانات الشحيحة. فعلى طول كورنيش النيل بين ماسبيرو (مبنى الإذاعة والتلفزيون) وفندق سميراميس إنتركونترنتال، هنا كورنيش الفقراء، على طول هذه المسافة تجد عشرات المراكب الشعبية، راسية في انتظار ركابها الفقراء، حيث أجر الراكب لجولة صغيرة في النيل لا يتعدى ثلاثة جنيهات (أقل من نصف دولار)، ولأن المراكب تنتظر طويلاً حتى تمتلئ، فقد اخترع أصحاب المراكب أسلوباً غريباً لتقطيع الوقت، بتزويد المركبات مكبرات للصوت، تبث بأقوى صوتها الأغاني الهابطة، وتقوم فتيات صغيرات مراهقات فقيرات، لا تتعدى أعمارهن الخمسة عشر عاماً، بالرقص على الأصوات التي تصم الآذان، وعلى أكثر الأغاني الشعبية المصرية بؤساً وضجيجاً. وكثيراتٌ من هؤلاء الفتيات يمارسن الرقص على هذه المراكب، وهن يرتدين الحجاب، ولا يشعرن بأي تناقض بين رقصهن والحجاب.

وإذا مشيت من ماسبيرو باتجاه فندق سميراميس مساء، ستبهرك ألوان المراكب، وستصفعك الأغاني الهابطة على طول الكورنيش، وستشاهد شباباً فقراء، متأنقين بطريقة غريبة، وستجد مئات الطاولات القذرة المصفوفة على رصيفٍ أكثر قذارة، يبيعون عليها الشاي بالنعناع، وسندويشات الكبدة، وستشاهد عائلات فقيرة وسعيدة بالوصول إلى الكورنيش، لأن مجرد وصولهم إلى هناك يجلب لهم السعادة، وبذلك ينتصرون على فقرهم بعض الوقت، قبل أن يعودوا إلى الانغماس فيه من جديد. وعلى الطرف الآخر من النيل، مقابل المراكب الشعبية، هناك المطاعم الفاخرة والمراكب الفاخرة التي يرتادها مصريون آخرون غير الذين على الشط الآخر من النيل. هذه المطاعم الفاخرة هي التي تُظهرها خلفيات استوديوهات القنوات العربية التي تستقبل ضيوفها في ماسبيرو، بينما يختفي الطرف الآخر من النيل، طرف الفقراء، هذا إذا كان للفقراء شيء في مصر غير الفقر المتوحش. وعندما ترى أكثر المشاهد فقراً وحرماناً، تعرف من أي لحم حي جمع ثمانية مليارديرات في مصر ثرواتهم التي تجاوزت أكثر من 24 مليار دولار من أعمالهم في مصر، وهو أكبر من عدد مليارديرات السعودية، فلك أن تتخيل حجم توحش الغنى في مصر.
في القاهرة، عوالم مصر منفصلة ومتداخلة، يتجاور البؤس والغنى. ولأن الغني يحتاج إلى الخدم، فعلى هامش كل حي غني حزام بؤس يقطنه الفقراء. في وسط القاهرة، تجد هذه العوالم وتشابكاتها. يفصل بين مقهى ريش الشهير عند ميدان طلعت حرب، في وسط القاهرة، ومقهى ستيلا في شارع هدى شعراوي حوالي عشرين متراً فقط، لكنهما، في الأجواء، ينتميان إلى عالمين مفصلين ومتصلين، الأول عنوان نجاح الانتماء إلى النخبة المصرية. وجودك في المكان وإنشاء شبكة علاقات مع رواد المقهى يجعلك، بشكل أو آخر، جزءاً من هذه النخبة التي تعتقد أنها تكرست. ولا شك أن هناك بين هذه الطبقة رواداً مثقفين.
في "ستيلا"، المشهد مختلف، إنه مكان المحبطين، مكان التضامن بين كل أطياف الذين يشعرون بالظلم، الحقيقي أحياناً، والكاذب في أحيان كثيرة. "ستيلا" هو مشرب يقدم البيرة مع قليل من الجبن وقطع البندورة والخيار، صحن من الترمس، هذا كل ما يقدم المكان (ريش مطعم فاخر بالمقاييس المصرية). هناك، تجد الفنانين المحبطين والكتاب المحبطين وبقايا مناضلين، مع بعض الحشيش والسجائر التي تملأ المكان الضيق ضباباً ورائحة في أيام شتائية، ويتحول إلى مكان خانق صيفاً. تجد المكان معبراً عن مصر أكثر ما يعبر عنه مقهى ريش الذي يبدو فيه البشر والأشياء أكثر سعادة وأكثر أناقة. في "ستيلا" مصر الأكثر حقيقية، مصر المحبطة، مصر التي تهرب من حاضرها في لفافة حشيش، وفي غناء فنانٍ ما زال في صوته قوة كثيرة، لكنه لم يعرف كيفية صعود الدرج المطلوب، وشاعر حضرت كلماته وتاه هو، ومناضلات سابقات يتمسكن بقضايا باتت على الهامش. تجمُعُ المحبطين في مقهى ستيلا هو الأكثر تعبيراً عن الروح المصرية المحبطة، وعن أدوات الهروب الفعالة، الحشيش والكحول والغناء المر، والأضواء الخافتة حتى لا يرى الرواد ملامح بعضهم بعضاً بوضوح. في "ستيلا" تسقط الأقنعة، ولو بعد حين، حين يبدأ الحشيش والكحول مفعولهما حتى نهايته، يتخفف الرواد من حواجزهم النفسية، ويدخلون في حوار جماعي، يتم تدعيم الحوار بسجائر الحشيش التي يجري تبادلها على سبيل التودّد والتعارف والتواطؤ.
إنها مصر المحبطة، ترسم أحلاماً تبدو عصية على التحقيق، لكنها تستمر في خلق الأحلام، لو كانت الأحلام مجرد هذيانات عابرة.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.