توظيف استطلاعات الرأي لصالح السياسة الإسرائيلية في القدس

توظيف استطلاعات الرأي لصالح السياسة الإسرائيلية في القدس

20 سبتمبر 2015

صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان في الحرم القدسي (يوليو/2015/الأناضول)

+ الخط -
كتب معهد واشنطن لدراسات الشّرق الأدنى، وهو أحد الأذرع الفكريّة للوبي الصهيوني في أميركا، استنتاجاً غير بريء في مقدمة تقرير نشره أواخر أغسطس/آب الماضي العبارة التّالية: "تفيد نتائج استطلاع رأي جديد بأن هؤلاء المهتمين بالديمقراطية والسّلام يجب أن يولوا اهتماماً أكبر لرغبات الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس، وليس فقط للذين يدعون أنهم يتحدثون باسمهم من خارج المدينة". 

كان هذا الاستنتاج إحدى خلاصات المعهد من استطلاع رأي أشرف عليه في يونيو/حزيران 2015 في أوساط الفلسطينيين في القدس، شمل عينة من 504 أشخاص، ونفذه مركز استطلاع فلسطيني في بيت ساحور. بحسب نتائج استطلاع الرأي، فإن 52% من المستطلعة آراؤهم قالوا إنهم يفضلون أن يكونوا "مواطنين في دولة إسرائيل"، مقابل 42% قالوا إنهم يفضلون أن يكونوا مواطنين في "الدولة الفلسطينية"، أو وفق تعبير التّقرير في العنوان "يفضلون الجنسية الإسرائيلية على الفلسطينية".
وقبل الخوض في تفاصيل الاستطلاع، يجدر النظر بعين الحذر والتشكيك إلى استطلاع رأي يجري في منطقة يدور حولها "صراع"، أو بمعنى أدق منطقة تحت الاحتلال. ليس من البريء، أو العادي، أن تسأل فلسطينياً احتلت أرضه، ويضيّق عليه في معيشته وحياته يوميّاً، ويواجه مخططات لاقتلاعه من مدينته، "أي سيادة تفضل، سيادة بلدك أم سيادة المحتل؟"،
خصوصاً أن سؤالا كهذا لا يصدر عن الرغبة في تحقيق "مطالب" ذلك الفلسطيني المحاصر و"مصالحه"، وإنما من محاولة للتظاهر بأن هناك "رأيا عاما" في القدس يرى في السيادة الإسرائيلية على المدينة خلاصاً له. وذلك واضح في الاستنتاج المدوّن أعلاه. فالمعهد خلص إلى أن هذه الأرقام الملغومة تعني أن الشّعارات السّياسية التي يحملها الفلسطينيون، أو قادتهم، ليست الممثل الحقيقي لما يريده الفلسطينيون، وإنما على من يهتم بالديمقراطية والسّلام، وغالب الظّن أنه يقصد أميركا، وربما "إسرائيل"، أن يلتفت إلى آراء "الشّعب" نفسه، وإلى ما يفضله أفراده.
وإذا ما نحينا جانباً، بعض الوقت، آليات الاستطلاع وتفاصيله، يظهر في قراءة المعهد نتائج استطلاعه وتوظيفها لصالح مقولة سياسية صهيونية بالأساس، هي أن "القدس موحدة"، ليس فقط برغبة الإسرائيليين، وإنما أيضاً برغبة الفلسطينيين أنفسهم الذين لا يريدون أن يصبحوا تحت حكم "الدولة الفلسطينية".
وعلى الرغم من اعتراف المعهد بأن أسباب هؤلاء المستطلعة آراؤهم في تفضيل "الجنسية الإسرائيلية" على الفلسطينية "عملية" براغماتية، تتعلق بمتطلبات الحياة، مثل الحصول على وظائف أفضل، معاشات أعلى، نظام صحيّ واجتماعي أكثر تطوراً، وحرية حركة، وغير ذلك، إلا أنه لا يكلف خاطره في الحديث عن السّياق السّياسي الذي جعل هذه الأسباب العملية تقرر للمقدسيين "أفضل جنسية" لهم، في حال رغبوا بتخفيف "تعاسة العيش تحت الاحتلال". على العكس، يحوّل المعهد هذه الأسباب العملية البحتة، ليستقي منها نتائج "مبدئية"، يمكن البناء عليها سياسياً.
بكل بساطة، يرى هؤلاء الباحثون أن من المقبول أن يُضيق على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحصر حركتهم ويمنعون من التنقل والسّفر، وأن تحاصر القدس بجدار ويضيق على أي نشاط سياسي يمارس فيها، ومن ثم أن يأتي أحدهم يسأل أهل القدس: هل تريدون أن نضيّق عليكم مثلما نضيق على هؤلاء في الضفة، فيقولون: نعم.
ولا توجد على موقع المعهد تفاصيل بشأن الأسئلة التي وجهت للمستطلعة آراؤهم، ولا صيغة الأسئلة وترتيبها، واللغة المستخدمة فيها. ولكن، مما نشر نجد أن الاستطلاع يضع الفلسطيني تحت سقف الحلول المتعلقة بـ "الدولة"، ويضعه أمام خيارين، إما "دولة إسرائيلية"، أو "دولة فلسطينية"، على الرغم من عدم وجود الأخيرة، ولنا أن نسأل هل كلّف الاستطلاع نفسه أن يسأل الناس، مثلاً، إلى أي حدّ يعتقدون أنه ستقام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
وفي جولة سريعة على نتائج الاستطلاع، كما ذكرها التقرير، يظهر أن 23% فقط من الفلسطينيين في القدس المحتلة يصرّون على سيادة فلسطينية على كامل المدينة، وأن 70% منهم يؤيدون حلّ الدولتين. على الرغم من ذلك، يقول المعهد، "ليس المقدسيون معتدلين إلى هذا الحدّ"، فـ55% منهم يؤمنون بضرورة تحرير كلّ فلسطين، حتى وإن قبلوا بحلّ الدولتين. كما أنّ 61% منهم يؤيدون الصّراع المسلح والهجوم بالسيارات، و39% يقولون إن حركة حماس تمثل آراءهم السّياسية.
وبناء على هذه الأرقام، يواصل المعهد استنتاجاته غير البريئة، قائلاً إن هناك "دروسا سياسية أوسع" يمكن تعلمها من هذه النتائج. إضافة إلى الاستنتاج المذكور أعلاه، يقول إن "الاستفادة من التعايش العملي يمكن أن توّلد عقلية أكثر اعتدالاً". أما ثانياً، فيقول المعهد إن "التقارب مع حزب معين ليس مؤشراً جيداً للمواقف الأساسية التي يحملها الفرد"، ويقصدون بذلك شعبية حركة حماس.
بمعنى آخر، يريد المعهد أن يوصي واضع السياسات الإسرائيلي بأن "الأسباب العملية" التي لأجلها يفضل الفلسطيني الجنسية الإسرائيلية هي المفتاح لضبط أهالي القدس، ولضمان وجودهم وتحركهم تحت سقف الوجود الإسرائيلي في كامل القدس. يعوّل المعهد على الحياة اليومية ومتطلباتها لدى الفلسطينيين في القدس، وسيلة لزيادة ارتباطهم بدولة الاحتلال ومؤسساتها، أو بتعبير أدق، تحويل متطلبات الحياة إلى وسيلة ابتزاز سياسي لهم. ويستلزم ذلك من الإسرائيليين أن يوفروا حياة معيشية أفضل لسكان القدس، بتوفير فرص عمل، تحسين ظروفهم الاقتصادية، وزيادة ارتباطهم معيشياً بكل ما هو إسرائيلي، بدءاً من المدارس، وربما انتهاءً بقبولهم التصويت في انتخابات بلدية الاحتلال، وحصولهم على الجنسية.
من ناحية أخرى، يحاول المعهد تفسير النسبة من المؤيدين لحركة حماس بأن ذلك بسبب "عدم السماح للسلطة الفلسطينية بالعمل داخل القدس"، أو ربما لأن هؤلاء المنتمين شعورياً لحماس يعبرون بهذا الانتماء عن كونهم "متدينين". ويلمح المعهد في ذلك إلى ضرورة إتاحة المجال للفعالين ضمن السّلطة الوطنية الفلسطينية للعمل داخل القدس، في سبيل تخفيف حدّة الانتماء لحركات غير مرغوب بها كحركة حماس.
في المجمل، يعطي التقرير وقراءته في "معهد واشنطن" ما يشبه الدليل السّريع لواضع السياسات الإسرائيلي ومنفذها على كيفية التعامل مع الوجود العربي الفلسطيني في القدس: اسمحوا للمعتدلين بالعمل، اهتموا بالبنى التحتية والظروف المعيشية، والأهم روّجوا أن العرب "يريدونكم أنتم"، والدليل: استطلاع الرأي.

استطلاعات أداة تسويق السياسات:
يحيلنا الاستطلاع الذي يجريه "معهد واشنطن" للمرة الثالثة في القدس إلى الاستطلاع الذي أجراه عام 2003 المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحيّة في رام الله، وجاء في نتائجه
أن أغلبية من اللاجئين في الضفة والقطاع ولبنان والأردن تتنازل عن حقّ العودة، وأن 10% منهم فقط يرغبون في الرجوع إلى القرى والأراضي التي هُجّر أجدادهم منها في الأراضي المحتلة عام 1948. وقد تم استخدام نتائج هذا الاستطلاع سياسياً في حينه، وروجتها المواقع الإعلامية الإسرائيلية والأميركية بشكل كبير، باعتبارها دليلاً على "إرادة الفلسطينيين". وكان الردّ الفلسطيني الشّعبي على إعلان هذه النتائج أن تم اقتحام مكتب المركز الفلسطيني الذي أجرى الاستطلاع، وتحطيم بعض محتوياته، ورشقوا مديره، خليل الشقاقي، بالبيض.
في المحصلة، لا تخدم استطلاعات الرأي هدف معرفة رأي الناس وتقديمه لراسمي السياسات، إنما هي تقوم "بصناعة الرأي" على عينها، على الوجه الذي يرضي من يقف وراءها.
وقد تلقف الاستطلاع الجديد ونتائجه سريعاً الباحث الإسرائيلي، نداف شرجاي، والذي يعمل باحثاً في مركز الأبحاث الإسرائيلي، المركز المقدسي لشؤون المجتمع والدولة، وقد سبق أن عمل في جريدة هآرتس 26 عاماً، وكان يوصف، في أحيان كثيرة، بأنه "ورقة التين اليمينية" للجريدة اليسارية. ويرى شرجاي في الاستطلاع إثباتاً لنظريته في كتابه الصادر حديثاً "وهم التقسيم"، والتي تقضي بأنه لا يمكن، من منظور المصالح الإسرائيلية، تقسيم مدينة القدس بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن الفلسطينيين في القدس أنفسهم لا يريدون الانسلاخ عن السيادة الإسرائيلية على حدّ زعمه. وقال شرجاي إن الاستطلاع دليل قويّ على "تعاظم موجة الأسرلة في صفوف الفلسطينيين في القدس". ويبدو استنتاجه غير مترابط، فمن جانب يشير، هو والمعهد، إلى الأسباب العملية البراغماتية وراء تفضيل "الجنسية الإسرائيلية على الفلسطينية"، لكنه، في الوقت نفسه، يستنتج من هذه الأسباب العملية موقفاً مبدئياً يُشير إليه بمصطلح "الأسرلة". ولتوضيح ذلك أكثر، يمكن التفكير بالمثال التالي، إذا تعلم النّاس اللغة العبرية من أجل فهم المعاملات الرسمية لهم مع سلطات الاحتلال، أي لسبب عملي بحت، هل يعني ذلك أنهم "تأسرلوا"، هل يعني ذلك أن وعيهم وهويتهم الوطنية غُيبت؟
ورحب شرجاي بالنتائج، لأنها تتفق مع الادعاءات الرئيسية التي يسوقها في كتابه حول الفلسطينيين في القدس، وأنهم "يندمجون أكثر فأكثر في النسيج الإسرائيلي البلدي للمدينة". وينصح شرجاي السلطات الإسرائيلية قائلاً إن فلسطينيي القدس "عامل ذو وزن ثقيل، يجب الاستماع إليهم والاهتمام بميولهم للعيش في مدينة مختلفة كمواطنين مع حقوق متساوية". ويختم مقاله بالتحذير من أحد معطيات الاستطلاع، وهي أن الفلسطينيين الذين يعيشون في الأحياء التي فصلها الجدار الفاصل عن مركز المدينة، مثل مخيم شعفاط وكفر عقب، ولا تقدم لهم خدمات بلدية إسرائيلية، يحملون مواقف "أكثر تطرفاً" من الذين يعيشون في الجهة الإسرائيلية من الجدار. وعليه، يربط شرجاي بين "المواقف المتطرفة" والمستوى المعيشي ونوعية الخدمات البلدية، إذ يؤثر مستوى الأخيرة على مستوى الأولى عكسياً.

الجنسية الإسرائيلية
على صعيد الواقع، لا يمكن التنكر للمعطيات والأرقام، فحسب معطيات وزارة الداخلية
الإسرائيلية، هناك ارتفاع واضح في عدد طالبي الجنسية الإسرائيلية من بين الفلسطينيين في القدس. وبينما كان عدد هؤلاء في العام 2003 فقط 114 فلسطينياً، فإن عددهم قفز إلى ما يقارب الألف في 2015. ولا تعني هذه الأرقام أن المقدسيين يتأسرلون، وأنهم يتنازلون عن هويتهم الوطنية، ولا تعني أن هناك رأياً عاماً فلسطينياً يقبل الاحتلال. يكفي أن نذكر أن غالبية حوادث إلقاء الحجارة تحصل في القدس، وأن ثلث الأطفال الفلسطينيين الموجودين في سجون الاحتلال هم من أطفال القدس. وما زالت الغالبية العظمى من المقدسيين تحمل مواقف مناهضة لطلب الجنسية الإسرائيلية، ناهيك عن فتوى تحريم ذلك.
إضافة إلى ذلك، أجرت التقارير الصحافية، العبرية منها والأجنبية التي تحدثت عن هذا الارتفاع، مقابلات مع أشخاص تقدّموا بطلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وكان تبريرهم منحصراً في الرغبة في "تثبيت أنفسهم في القدس، والحفاظ على وجودهم". مرة أخرى، هذا يعني أن الأسباب براغماتية بحتة وليست مبدئية، أي أنهم يلجأون إلى ذلك مضطرين. وتدل هذه الأرقام على عمق الوحدة التي ترك فيها أهل القدس ليواجهوا مصيرهم منفردين، ويبحثوا عن الخلاص الفردي، مهما كانت وسيلته، من أجل البقاء في القدس والصمود فيها.
في الختام، يتسق ما تشير إليه قراءة "معهد واشنطن" مع سياسة الضّبط الناعم التي تحاول سلطات الاحتلال بها مواجهة أهل القدس ويخدمها. تدرك هذه السّلطات أن القوة لن تخمد غضب المقدسيين، ولن تمحي انتماءهم الوطنيّ. لذلك، تعمد، بين حين وآخر، إلى وسائل "الاحتواء" أو الضبط الناعم، بحيث تجعل أذرعها المختلفة عنواناً لهم، وتمسكهم من أياديهم التي توجعهم كما يقول المثل، من يد العمل والرزق والتحصيل الأكاديمي وغيرها. وبموازاة هذه السياسة الناعمة – العنيفة، تؤدي هذه الأرقام الملغومة في استطلاعات الرأي الخبيثة دوراً في ترويج السياسة الإسرائيلية، والتحفيز على استمرارها.