الفنيات الروائية تخدم الأعداء

الفنيات الروائية تخدم الأعداء

30 اغسطس 2015
+ الخط -

إبّان الثمانينيات، كنا نتندر بحكاية ذلك الضابط السوري، اللواء محمد ابراهيم العلي "أبي ندى"، الذي استهواه عالم الأدب والشهرة، فقرر أن يكون روائياً.

في أدبيات الخدمة العسكرية، تُستخدم كلمة "وحش" على سبيل الثناء والمديح للعسكري الخشن القوي، أما "أستاذ" فتستخدم للاستهزاء والمسخرة من العسكري اللطيف الحساس. ولأن الأدباء، من وجهة نظر العسكرتاريا الأسدية، أساتذة؛ لا يصلحون للعمل العسكري الجاد، فقد عهدوا إلى ذلكم الضابط الروائي بإدارة مؤسسة عسكرية من الدرجة الخامسة، هي: الجيش الشعبي.

أحبَّ أبو ندى مؤسستَه، على الرغم من تواضُع أهميتها.. وبما أنه من "عظام رقبة النظام"، فقد أُطْلِقَتْ يدُه فيها، ومُنِحَ بعض الصلاحيات في مؤسسات التجنيد وشؤون الضباط والأفراد، وأصبح، من ثَمَّ، يقدّم للأدباء السوريين الشبان الذين يُدْعَوْن لأداء الخدمة الإلزامية فرصةً نادرة للتخلص من الخدمة الشاقة، وذلك بفرزهم للخدمة في الجيش الشعبي، حيث يُمضي الواحدُ منهم الأشْهُرَ الثلاثين المخصصة للخدمة وهو باللباس المدني، معفىً من حلاقة الشعر (على الزيرو)، يُطَالَبُ بنصف دوام فقط، وأحياناً يُرسلُ، باسمِ الجيش الشعبي، في مهمات خارج البلاد، كما لو أنه سفير دبلوماسي، أو ملحق ثقافي.

كان من المتعارف عليه أن يستفيد الضباطُ العاملون في الجيش العربي السوري العقائدي من العساكر المجندين في بيوتهم ومزارعهم وأعمالهم التجارية، ففي أثناء الفَرْز يُسْأَلُون عن اختصاصاتهم في الحياة المدنية، وبناءً على أجوبتهم، يُرْسَلُ الطَيَّانُ والنجارُ والحدادُ والسباكُ للعمل في مزرعة (المعلم)، أو متجره، ويُرْسَلُ المُدَرّسون إلى بيت سيادة الضابط ليدرّسوا أبناءه وبناته، بقصد أن يصبح هؤلاء متفوقين على أقرانهم من أبناء الناس العاديين.. ولكن هنا، عند أبي الندى، الوضع مختلف، فهؤلاء المجندون يُطْلَبُ منهم شيء واحد، وبسيط للغاية، وهو أن يساعدوا سيادة اللواء أبا ندى في تأليف رواياته التي تنتمي إلى الواقعية الاشتراكية، وتدقيقها، وتنقيحها، وطباعتها على الآلة الكاتبة، ثم الكومبيوتر، قبل أن تأخذ طريقها إلى النشر، ثم الترجمة.

تبنَّت القيادةُ السياسيةُ الثقافيةُ الإعلاميةُ السوريةُ الحكيمةُ الأعمالَ الروائية التي كانت تُنتجها ورشات سيادة اللواء أبي ندى الروائية، على النطاق المحلي، وفي المحافل الدولية، وقد لعبت عملية الترجمة المتفق عليها بين الطرفين، السوري والسوفييتي، دورها في بقاء اسم محمد ابراهيم العلي عند الرفاق السوفييت، طوال أيام المرحوم ليونيد بريجينيف، وما أطولها، على أنه الروائي السوري الأول! فما كانت شعوب السوفييت تعرف شيئاً عن شكيب الجابري أو فارس زرزور أو عبد السلام العجيلي أو وليد إخلاصي أو هاني الراهب أو حسن صقر... إلخ.

كانت روايات العلي مسرودات حكائية طويلة، ثقيلة الظل والوزن، تخلو من اللمعة الإبداعية، ومن الخطط الروائية الذكية التي يعتمدها الروائيون الأجانب والعرب، ومن التجليات اللغوية التي يمكن أن يجدها المرء عند أعلام السرد العربي القديم، أمثال الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، أو أعلام السرد المعاصرين، أمثال محمد خير الدين الأسدي وحسيب كيالي ومحمد الماغوط..

نصل هنا إلى الحكاية التي كنا نتندّر بها في مطلع حياتنا الأدبية. فذات مرة، وكان أبو ندى في أوج شهرته، وخيلائه، وجبروته، أوعز لمساعديه وتلامذته أن يقيموا له ندوة نقدية لأعماله. وليكن في معلوم الإخوة القراء أن "النقد"، في هذه الندوات، يعني "المديح" والبحث في النقاط الإيجابية حصراً.. المهم، في الندوة، مع ذلك، تجرأ أحدُ الحاضرين ووجه إلى سيادة اللواء السؤال التالي: لماذا تخلو أعمالك الروائية من الفنيات الروائية المتعارف عليها؟

فأجابه اللواء باستغراب: شو؟ شو؟ تريدون فنيات روائية والعدو على الأبواب؟ 

ملاحظة: بعد سنين من هذه الحادثة، داس شبيحة الأسد فوق أجساد الشبان الثائرين وقالوا لهم باستهزاء: شو؟ شو؟ شو؟ بدكن حرية؟ أي لكان خذ هذه اللبطة كرمى للحرية.

  

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...