السيسي... وصعوبة استنساخ مبارك

السيسي... وصعوبة استنساخ مبارك

30 اغسطس 2015

السيسي ومبارك وجها واحدا في مظاهرة ضد الانقلاب (مارس/2015/Getty)

+ الخط -
قد يتشابه نظاما الرئيسين المصريين، الحالي عبد الفتاح السيسي والأسبق حسني مبارك، في أوجه كثيرة، إلا أن التسليم بالتطابق المطلق بين النظامين قد يشوبه بعض من عدم الدقة، بل يمكن القول إن قدرة السيسي على نسخ نظام مبارك رفاهية لا يمتلكها من الأساس، فثمه تحديات جوهرية تفصل الرجل عن إدراك ما أدركه الرئيس المخلوع من سلطة سياسية واجتماعية، يرجع سببها بالأساس إلى النظام السياسي الذي بناه الأخير على مدار 30 عاما من الحكم، وهو ما يفتقده السيسي شكلاً وموضوعاً.
بدايةً، حرص مبارك على أن يوجِد نظاماً داخليا مبنياً على إضعاف عناصر الحياة السياسية الأساسية وتقويضها، من أحزاب وبرلمان ودستور ومنظمات مجتمع مدني، وغيرها من مقومات المشاركة الفعالة. فكان نظام مبارك هيكلاً من الديمقراطية مفرغاً من محتواه. أو بمعنى آخر، نجح مبارك في تشكيل نظام سياسي مستأنس، بلا أي جوهر يمثل تهديداً لنظامه، وقد اعتمد في ذلك على شرعيته، كأحد قادة حرب أكتوبر 1973 التي طالما اعتبرها المصريون رمزاً للنصر والفخر.
أما عبد الفتاح السيسي فقد بدأ عصره على عكس ذلك تماما، بدأ بطمس العناصر السياسية الأساسية، ليس فقط إضعافها كما فعل مبارك. بدأ بإقصاء معارضيه، لاسيما جماعة الإخوان المسلمين التي أعلنها جماعه إرهابية، ورفض تأسيس أو الانضمام إلى أي من الأحزاب الموجودة، واستأثر بالسلطة التشريعية، وأرجأ انتخابات البرلمان أكثر من عامين على انتخابه، وضيّق الخناق على حريات التعبير والتظاهر، وغيرها من إجراءات تجريف المجال السياسي. وعلى الرغم من الدعم الهائل الذي حظي به عبد الفتاح السيسي، من قطاعات واسعة من الشعب المصري، عقب إطاحته الرئيس السابق محمد مرسي، إلا أنه لم ينظر إليه نظرة الأب الكبير الذي نظر بها مصريون كثيرون لحسني مبارك، ربما لصغر سن السيسي، مقارنة بسابقيه، أو ربما بسبب خطاباته الإعلامية التي لا تعكس تلك الصورة الأبوية.

كذلك نرى تبايناً واضحاً في موقف الرئيسين من المعارضة السياسية، وكيفية التعامل معها. فعلى الرغم من بطش مبارك بمعارضيه، إلى حد حظر جماعه الإخوان المسلمين، وسجن منافسه في انتخابات رئاسه عام 2005، أيمن نور، إلا أنه لم يقصِ، يوماً، أي طرف من المشهد السياسي بشكل تام، فقد أدار مبارك اللعبة السياسية بدرجات متفاوتة من العنف والسلطوية، فتاره يبطش بهم ويلقي بهم في المعتقلات والمحاكمات العسكرية، وتاره يسمح لهم بالمشاركة السياسية المحدودة في المجالس المحلية أو البرلمانية، ويوفر لهم مساحة متفاوتة من العمل الاجتماعي، تضمن التنفيس عن السخط الشعبي، لتجنب حدوث فوران عام.
ولعل الفضل في تلك "الإدارة الرشيدة" لسلطوية حكم مبارك يعود، أساساً، إلى فريقه من نخبة رجال القانون ودواهي السياسة، فتحي سرور ومفيد شهاب وزكريا عزمي وكمال الشاذلي، أمثلة، وهو ما يفتقده، وبشدة، الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، الذي يعتمد، أساساً، على عسكريين ممن تسببوا، أصلاً، ليس فقط في عرقله ثورة 35 يناير وأفشلها، لكنهم فشلوا حتى في الحفاظ على النظام السياسي الذي أرساه مبارك ثلاثة عقود.
إقصاء المعارضة من المشهد السياسي، واعتقال المجموعات الشبابية من أمثال "6 إبريل" والاشتراكيين الثوريين في ظل عدم وجود أي أحزاب قوية، يمكنها لعب دور مؤثر (حتى إن كانت أحزاب موالاة) وعدم إعطاء الفرصة لتأسيس أحزاب حقيقية، أو حركات اجتماعية، ناهيك عن سيل الإصدارات التشريعية والقانونية بلا حسيب، وكذلك عملية التسييس الفج لأحكام القضاء التي لم تحدث، حتى في أقوى أيام عصر مبارك، ترتب عليها خلل جسيم في النظام السياسي المصري ككل.
ليس هذا دفاعاً عن سلطوية مبارك، وإنما لتوضيح أن حتى الأنظمة الدكتاتورية، تحتاج إلى إدارة سياسية حكيمة، تمكنها من الحفاظ على سلطويتها. ما لا يفهمه السيسي أن مبارك لم يستمر على عرشه 30 عاماً بسبب شدة بأسه على معارضيه، بل كان ذلك بسبب نظام سياسي، نعم نظام قمعي سلطوي، لكنه حافظ على الحد الأدني من المشاركة السياسية والعمل الاجتماعي العام. ليس حباً في الديمقراطية، أو إيماناً بها، وإنما لضمان الاستمرار في الحكم أكبر وقت ممكن. حتى أن الأطراف المعارضه لنظامه، مثل جماعة الإخوان المسلمين، تآلفت، هي الأخرى، مع قوانين اللعبة، وتعايشوا معها، بل كانوا جزءاً منها أحياناً كثيرة.
أما الآن، فمصر لا تعيش حياة سياسية مجرفة فحسب، بل يمكن نعتها "بالعليلة"، فكيف لنا أن نتحدث عن برلمان، ونحن لا يوجد لدينا من يترشح للانتخابات؟ علينا أن ندرك أن الأفراد وحدهم لا يمكنهم تشكيل حياة سياسية ناضجة، بل إنه لا توجد حياة سياسية (ناهيك عن ديمقراطية) تتكون بدون العناصر التنظيمية الأساسية، كالأحزاب والمؤسسات والجماعات والمنظمات التي تلعب كل منها دوراً أساسياً في تكوين هيكل النظام السياسي والاجتماعي. حتى إن أعتى النظم الشمولية تحتاج إلى مثل تلك العناصر، لتستطيع أن تتوصل إلى قواعد تنظيم اللعبة السياسية.
ببساطة، تعاني مصر، الآن، حالة فراغ سياسي، لن يملأه حتى تزوير الانتخابات البرلمانية. فإن كان يمكن الجزم أن نظام مبارك كان فاسدًا، فإننا سنجد صعوبة في وصف حكم السيسي بأنه نظام من الأساس. وإن كان المناخ السياسي الجاف في عصر مبارك أنتج مجموعات وتنظيمات معارضة أطاحته من الحكم بعد ثلاثين عاماً، فإن الحالة التي تعيشها مصر تتسبب في تجفيف منابع الحراك الاجتماعي السلمي الذي قد يترتب عليه انفجار لن تحمد عقباه.

3CF2ED94-B469-4951-99CB-738B5DF7BA4E
عبدالله هنداوي

باحث مصري متخصص في شؤون الشرق الأوسط، ومدرس مساعد علم الإجتماع السياسي بجامعة جورج ميسون - واشنطن.