نفايات تهدد بقذف لبنان إلى المجهول

نفايات تهدد بقذف لبنان إلى المجهول

29 اغسطس 2015
+ الخط -
اكتسب الحراك المدني الذي شهدته بيروت بصورة متنامية، منذ نحو أسبوعين مضيا، طابعاً فريداً. فالمحتجون لم يخرجوا من أجل الخبز أو الحرية، وهما المطلبان الحيويان اللذان رفعتهما شعوب شتى في المعمورة، منها شعوب عربية، وإنما تحركوا ضد النفايات المنزلية المتراكمة في بلدٍ، طالما وُصف بأنه سويسرا الشرق. على أن هذا المطلب لا يُحتسب من قبيل النضال البيئي، فلو كان الاحتجاج، مثلاً، على طرق جمع النفايات، أو وسائل إحراقها، أو إعادة تدويرها، لكان الأمر نضالاً متطوراً من هذا القبيل. ثار التحرك لأن لا أحد يجمع النفايات ويرفعها، وكما هو الحال في بعض عشوائيات وهوامش عواصم العالم الثالث، فقد توقفت الشركة المولجة بهذه المهمة، وتدعى سوكلين، عن تقديم خدماتها. فكان أن تحركت مجموعات شبابية رافعة شعار "طلعت ريحتكم"، والمقصود رائحة السياسيين النافذين. وهكذا، أخذ الاحتجاج يرتدي طابعاً سياسياً، وخصوصاً مع رفع صور سائر السياسيين البارزين ورؤساء الأحزاب (باستثناء حزب الله). واتخذ المحتجون من ساحة رياض الصلح، وسط العاصمة، مسرحاً لاعتصامهم، وقريباً من مقر مجلسي النواب والوزراء. وبلغ الأمر أن معتصمين رفعوا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، لكنه لم يلق تحشداً حوله، أو مجرد قبول من سواد المعتصمين والمحتجين.
هناك مظاهر خلل وأعطاب في النظام اللبناني وروائح فساد، وظاهرة التوريث، والتنازع مع الدولة على سلطتها وولايتها على البلاد والعباد. والنظام يترنح بالفعل، فلبنان بدون رئيس جمهورية منذ 465 يوماً. والمجلس النيابي ممدد له، بما يلقي ظلالاً على تمثيله الناخبين. ومجلس الوزراء، إلى جانب المؤسسة الأمنية (الجيش والدرك) هما المؤسستان الباقيتان والممثلتان لوجود الدولة.

وقعت اصطدامات بين المحتجين والقوى الأمنية، وجرى تخريب منشآت ومرافق، منها تمثال رياض الصلح، والرجل، صاحب التمثال هو، إلى جانب بشارة الخوري، أب الاستقلال اللبناني. جرى الحديث عن مندسين نشطين وشبه محترفين، تولوا مهمة التخريب. جرى اعتقال زهاء 90 محتجاً، تم الإفرا ج عنهم. وقد تبرأ المحتجون من أعمال التخريب. أما السياسيون النافذون فقد انقسموا بين من يسعى إلى احتواء الوضع، ومعالجة مشكلة النفايات، وفريق يسعى إلى استثمار سياسي عبر التهديد بالنزول إلى الشارع، بما يعني ركوب موجة الاحتجاج، وتوجيهها لخدمة هذا الفريق الدائم التطلب. ففي يوم الأربعاء الماضي، 24 أغسطس/آب، عمد وزراء التيار الوطني الحر وحزب الله (6 وزراء)، وتضامن معهم ممثل حزب الطاشناق الأرمني، وأيضاً، وزير ينتمي لحزب المردة (سليمان فرنجية)، على الرغم من أنه خارج البلاد، عمد هؤلاء إلى الانسحاب من جلسة لمجلس الوزراء، لأنهم لا يريدون التوقيع على مراسيم عادية، تتعلق بمصالح مواطنين وإحالات على التقاعد... ومع أن القرارات في مجلس الوزراء تتخذ بالأكثرية، فقد هدد هؤلاء بالنزول إلى الشوارع لقيادة المحتجين عملياً، إذا ما تم نشر المراسيم في الجريدة الرسمية. وقيل إن الوزراء المنسحبين سبق أن وافقوا على تلك المراسيم، لكن اعتراضهم الأساسي على التعيينات والترقيات العسكرية والأمنية. يريد الجنرال ميشال عون، الأب الروحي للتيار الوطني الحر (سلّم قيادة التيار لصهره باسيل جبران وزير الخارجية) ترقية صهره الآخر قائد فوج المغاوير في الجيش، العميد شامل روكز، وهذا سر اعتراضه الجوهري والمبدئي. وحزب الله يرفع شعار: لن نسمح بكسر عون! أي لن نسمح بعدم تلبية مطالبه "الوطنية"! وفيما كانت الجلسة مخصصة للنفايات، إلى جانب إصدار المراسيم، فقد فشلت الجلسة في الوصول إلى قرارات شافية.
لا شك أنه إخفاق مُدوّ أن تفشل حكومة في بلدٍ، عرف بتطور خدماته، بمعالجة مشكلة نفايات، وأن تصل المشكلة إلى حد عدم وجود من يرفع النفايات. إنها مشكلة "صومالية"، مع الاحترام للإخوة الصوماليين. والمقصود هنا التأشير إلى مستوى التطور والتأخر. وهذه مشكلة صحية خطيرة، سواء في حال ترك النفايات، أو في حال تكفل الناس بحرق جبال من النفايات وسط شوارع وأحياء سكنية مكتظة. في ظروفٍ طبيعية، يتعين أن تستقيل الحكومة، اعترافاً بهذا الفشل وتحملاً لمسؤوليته. وقد قيل إن تمام سلام، رئيس الحكومة، وهو شخص وفاقي وغير حزبي، هدد بالاستقالة قبل نشوب هذه الأزمة، وبالتأكيد، لديه الآن أسباب إضافية للاستقالة، غير أن مغادرة هذا الموقع تعني، في الظروف اللبنانية، انهيار المؤسسة الدستورية الباقية. ففي حالة الاستقالة، سيريد ميشال عون حكومة ورئيس حكومة على هواه، وإلا لن تتشكل. والحليف حزب الله لن يسمح بكسر عون. والحال أن لا أحد في وسعه ملء الفراغ الحكومي، لو وقع سوى القوى الأمنية من جهة، وقوى الأمر الواقع المسلحة من جهة أخرى. يرفع عون شعار حقوق المسيحيين.. فيما واقع الحال يفيد بأنه طامح لـ"حقوقه" هو و"حقوق "الأصهار. فحقوق المسيحيين تُضار ابتداء من حليفه حزب الله الذي ينتقص من مركز رئاسة الجمهورية والمؤسسات السيادية الأخرى، بالاستيلاء على قرارات السلم والحرب، والمشاركة العسكرية في نزاعات خارج لبنان.
النظام في لبنان قبل أن يسقط، بحاجة إلى إعادة تجميع، أولاً، بالسماح بانتخاب رئيس جمهورية وإجراء انتخابات نيابية، ثم إعادة تأهيله وتجديده تجديداً شاملاً، ما أمكن ذلك. فالنظام يمثل تعاقداً بين طوائف ومناطق. إنه أشبه بكونفدرالية طوائف (16طائفة وفي رواية أخرى 18) كما سمّاه الكاتب الراحل جوزيف سماحة، وسقوطه يعني فتح الباب أمام تنازع أهلي طاحن على الحقوق والتمثيل. هذا هو حال هذا البلد، منذ أكثر من سبعة عقود على استقلاله. ومع العيوب البنيوية للنظام، إلا أنه حقق تقدماً في مجال الخدمات العصرية المصرفية والأكاديمية والصحية والسياحية والإعلامية. وعلاوة على ذلك، باتت الديمقراطية التوافقية التي تتيح هامشاً واسعاً من الحريات خياراً إلزامياً وضرورة حياة للبنانيين، وليست مجرد خيار سياسي! فالديمقراطية التوافقية تسمح بالجهر بالمطالب والتظلمات والحقوق، بمختلف الوسائل السلمية، فإذا ما تقوّضت هذه، فكيف لممثلي وأبناء كل طائفة أن يضمنوا التعبير عن حقوقهم، بالتشارك في إدارة مؤسسات الدولة؟ لهذا، فإن الوعي العصري للنخب اللبنانية العريضة يناهض الطائفية، على مستوى الحياة الاجتماعية والفردية والتعليمية والثقافية، لكن الأغلبية، باستثناء فريق يساري يضمحل تأثيره ووجوده، لا ترى بديلاً للنظام إلا من داخله، وذلك ضمانة للسلم الأهلي والتوازنات الاجتماعية.
الخشية هي انزلاق البلد إلى المجهول، تحت ضغط عاملين، أو أحدهما. الأول، محاولات البزنس الاستثمار في مشكلة النفايات بالسمسرة وسواها من ألاعيب، فيما الدولة مرهقة مالياً وديونها تناهز 67 مليار دولار. الثاني هو الاحتمال الداهم بالاستثمار السياسي والحزبي للمشكلة، بركوب موجة احتجاجات الشارع، والتهيئة لـ"انقلاب شعبي" يستفيد منه حصراً نافذون معلومون.