الأزمة الصينية والدول الغربية

الأزمة الصينية والدول الغربية

29 اغسطس 2015
+ الخط -
حالة طوارئ اقتصادية في الدول الغربية، بسبب الأزمة الصينية (المحتملة)، وإن كان الخطاب الرسمي يقلل من تداعياتها على الاقتصاديات الغربية، ويعبر عن ثقته في السلطات الصينية في اتخاذ التدابير الضرورية للحد منها، ثم تجاوزها. فأوروبا تتخوف من أي تعثر صيني، لأن الاقتصاد الأوروبي في ركود ومنطقة اليورو لم تتعاف بعد، والأزمة اليونانية ما زالت قائمة. ويريد القادة الأوروبيون أن تكون الصين جزءا من الحل لتسوية الأزمات الاقتصادية الأوروبية (ألمانيا شريك أساسي للصين، وستكون أول المتضررين من أي أزمة صينية)، وليس مشكلة إضافية ضخمة، ترهن المستقبل الاقتصادي لأوروبا اتحاداً ودولاً.
الحقيقة أن الغربيين، عموماً، أمام معضلة، فمع بوادر الأزمة الصينية (انخفاض قيم بورصة شنغهاي يوم الإثنين والهزات التي أحدثتها في الأسواق المالية العالمية، انخفاض في الإنتاج الصناعي، نمو اقتصادي أقل مما كان متوقعا...) لا يتردد كثيرون في الغرب عن التساؤل على انعكاسات إيجابية لهذه الأزمة على الاقتصاديات الغربية، بيد أن المسألة ليست بهذه البساطة، فحسابات الربح والخسارة معقدة للغاية، بسبب العولمة، والتأثيرات المتعددة الاتجاهات الطارئة والبنيوية. لذا، فحال العالم، لا سيما الدول الغربية الكبرى مع "الأزمة" الصينية، كحال المستجير بالرمضاء من النار.
تعاني معظم الاقتصاديات العالمية الكبرى من نمو الاقتصاد الصيني المعتبر والمتواصل. حيث أصبحت الصين، في ظرف زمني قياسي، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة، محدثة تحولاً جذرياً في توزيع القوة الاقتصادية عالمياً، متجاوزة كل الدول الغربية الأخرى. وفي الوقت نفسه، هي تتأثر بأي تعثر اقتصادي للصين، بالنظر لثقله محركاً للاقتصاد العالمي، وسوقاً كبرى للمنتجات والاستثمارات الغربية. وعليه، فبقدر ما تعاني الاقتصاديات الغربية من الصعود المتواصل للصين، بقدر ما ستعاني، أيضاً، من أي خلل أو ركود في اقتصادها. إنها معضلة بكل المقاييس.

فلأزمة الصين الحالية (مالية بالأساس، وربما اقتصادية مستقبلاً، وإن كانت الأمور نسبية، لأن تراجعاً نسبياً بعد نسب نمو ضخمة جداً ليس بالضرورة أزمة) محاسن بالنسبة للاقتصاديات الغربية، فهي تفتح المجال لإعادة توطين المؤسسات الغربية التي غادرت الديار الغربية، لتستقر في الصين، سعياً إلى تعظيم أرباحها، بالنظر إلى الرواتب المنخفضة في الصين، وشبه انعدام قواعد الحماية الاجتماعية. وإن كانت ظاهرة تهجير المؤسسات نحو الصين تراجعت، في السنوات الأخيرة، بسبب القدرة التنافسية (العكسية) لبلدان، مثل بنغلاديش والهند التي تكاد تنعدم فيها أدنى شروط الحماية الاجتماعية، والرواتب فيها منخفضة، مقارنة بالصين (تحسنت فيها مداخيل العمال بفضل النمو الاقتصادي المتواصل). لذا، أول ما تتمناه الدول الغربية من الأزمة الصينية توقف نزيف الشركات الغربية وعودة بعضها إلى الديار الغربية، ما سيؤثر، بالطبع، على سوق العمل، بإيجاد فرص عمل جديدة والحد من البطالة البنيوية. كما تتمنى الدول الغربية أن تحد هذه الأزمة من القدرة التنافسية للمنتجات الصينية، ما يعني رفع القدرة التنافسية للمنتجات الغربية، وبالتالي، زيادة الصادرات الغربية، والحد من العجز في موازينها التجارية، وإيجاد فرص عمل جديدة في الغرب.
إلا أن للأزمة الصينية مساوئ بالنسبة للدول الغربية، بما أن الصين هي القلب النابض للاقتصاد العالمي، فإن أي خلل تتعرض لها تكون له انعكاسات كبيرة وفورية على الاقتصاد العالمي ككل. أهمها تراجع الطلب الصيني على المواد الأولية، وعلى المنتجات والاستثمارات الغربية. صحيح أن الدول الغربية غير مصدرة للمواد الأولية، لكن شركاتها المتعددة الجنسية العملاقة تعمل في هذه القطاع في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي، هي تتضرر بشكل أو بآخر، بتراجع الإقبال الصيني على المواد الأولية، لا سيما الطاقة. وإن تراجعت واردات الصين من المواد الأولية الأساسية، فإن الدول المصدرة لها ستتضرر، وتخفض تعاملاتها الاقتصادية مع الدول الغربية، وهكذا دواليك. للتذكير، تستحوذ الصين على ما يقارب ثلث الطلب العالمي على المواد الأولية.
أما انخفاض الطلب الصيني على المنتجات الغربية، مثل السيارات، فيعني تراجع الصادرات الغربية في هذا القطاع، وما لذلك من انعكاسات على سوق العمل، فضلاً عن الركود الذي ستعرفه الشركات الغربية العاملة في الصين. أما الاستثمارات الصينية في الخارج فستعرف، هي الأخرى، تراجعاً بفعل الأزمة، وهذا ما سيؤثر، بالطبع، على الاقتصاديات الغربية، أين أصبحت الاستثمارات الصينية أحد محركاتها الأساسية، لا سيما في بعض القطاعات.
بغض النظر عن حجم هذه الأزمة، أو بالأحرى حجم المدركات والتخوفات منها، فيبدو أن الاقتصاد الصيني يعرف تحولاً يتمثل، أساساً، في ابتعاده عن نسب النمو المرتفعة من رقمين (10 فما فوق) وعودته إلى نسب "معقولة". وفي عدم التحسن الكافي لمداخيل الصينيين، بشكل يسمح للصين بالاعتماد على الاستهلاك المحلي، للتقليل من الاعتماد على الصادرات، وفي صعود بلدان ذات قدرة تنافسية (عكسية، أي أنها تعرض ظروف عمل وتكلفة أقل مما عليه الحال في الصين)، فضلاً عن تفضيل شركات غربية العمل في دول أوروبا الشرقية، تقليصاً للمسافة، وربحاً للوقت، من حيث عرض منتجاتها في الأسواق الغربية. إنها صفحة جديدة من العولمة.
(كاتب وباحث جامعي جزائري في فرنسا)