بداية التغيير من المجتمع أم النظام؟

بداية التغيير من المجتمع أم النظام؟

03 اغسطس 2015
+ الخط -
شعب واحد يفصله نظامان سياسيان مختلفان، جعلا كل شعب يعيش في عالم مختلف.. ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية. تحولت ألمانيا الشرقية المحتلة من روسيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى النظام الشيوعي، بكل سماته الديكتاتورية، وسمي نفسه "ألمانيا الديمقراطية"! وسلط أجهزة دعايته ضد ألمانيا الغربية، ووصفها بالدولة "الفاشية". وشأن كل نظام فاسد، جمع حوله مجموعة من المنتفعين، واستمال بدعايته طائفة من الشعب، وظلت أشواق الحرية تدفع طائفة أخرى للفرار من جحيم الديكتاتورية. وفي خلال عشر سنوات، هاجر من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية ثلاثة ملايين، معظمهم من المتعلمين الأكفاء. أحس النظام الشرقي بالخطر من تفريغ البلاد من كفاءاتها، وبصفته نظاماً ديكتاتورياً منغلقاً، بدلاً من أن يفكّر في تطوير نظامه السياسي وتخفيف قبضته عن المواطنين، أنشأ سوراً ليسجن خلفه أبناء ألمانيا الشرقية. 
وبين إنشائه عام 1961 وهدمه في 1989، قُتل برصاص جنود الحدود مئات ممن حاولوا الهرب، فضلاً عن آلاف المقبوض عليهم، بتهمة الخيانة ومحاولة الهرب إلى دولة معادية. وما زال في حاضرنا مثل قائم في كوريا الشمالية والجنوبية، شعب واحد يعيش عالمين مختلفين تماماً، والسبب ليس اختلاف ثقافات ولا كفاءات ولا موارد. السبب هو "النظام السياسي". ويبقى السؤال الكبير: هل الإصلاح يبدأ من المجتمع، أم من نظام الحكم؟
لا شك أنه سؤال يحصر المفكر في دائرة أشبه بدائرة البيضة والدجاجة، وأيهما أولاً. فإنْ قال قائل: الإصلاح يبدأ من المجتمع، مستنداً إلي الحكمة: "كيفما تكونوا يولّ عليكم"، فإن ما صارت تملكه الدول من سيطرة علي أدوات التوجيه والتأثير من مؤسسات ثقافية وتعليمية وإعلامية وفنية، يجعلنا نقول أيضاً بثقة: "كيفما يولَّ عليكم تكونوا". أو كما كان الأقدمون يقولون: "الناس على دين ملوكهم". فكل التجارب حولنا تقول: النظام السياسي عنصر أساسي مؤثر في سلوك الشعب وثقافته، فضلاً عن رقيه واستقراره.
ويبقى سؤال آخر: كيف يمكن أن يتغير نظام فاسد أثر بفساده في إفساد قطاع كبير من الشعب؟
ولمحاولة الإجابة، نعود إلى النموذج الألماني. كان مجتمعاً يحمل الصفات المشتركة لأي مجتمع تحت الحكم الديكتاتوري، طائفة من المنتفعين والفاسدين والوصوليين، وطائفة كبيرة من الصامتين والهامشيين، وقلة من المعارضين المضطهدين. وفجأة، عام 1989، يعلن عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، في أثناء حوار إعلامي، بالخطأ، أن قيود التنقل بين الألمانيتين رُفعت. كان تصريحاً بمثابة الثقب الذي ثقب جدار الخوف والقهر، فانطلقت أشواق الحرية المكبوتة في صدور مقهورة، وتوافد المواطنون بتلقائية على جانبي الجدار، وبدأوا يهدمونه بما تيسر في أيديهم، وانهار الجدار وانهار معه النظام، من دون إراقة قطرة دم واحدة. وأصبح الشعب الألماني الذي كانت تلك صفاته الشعب الذي يراه كثيرون شعباً نموذجياً، في ظل نظام سياسي رشيد. والعجيب أيضاً أن بعدها بسنوات كان الأخ الأكبر (الاتحاد السوفييتي) ينال المصير نفسه. وفجأة، وبلا مقدمات، ومن دون إراقة قطرة دم واحدة.
لا نقول انتظروا المعجزة، أو انتظروا المصادفة السعيدة لإسقاط نظام ديكتاتوري. فبجانب هذا المثل، هناك أمثلة دموية، مثل نهاية نظام مشابه في رومانيا. ولكن، تظل هناك سمة مشتركة لكل النظم الديكتاتورية، هو انهيارها المفاجئ من دون مقدمات، فطاقة الغضب مكبوتة تحت غلاف مزيف من الهدوء، ويبدو ظاهر الدولة هادئاً، وعلى ما يرام، حتى أول ثقب في جدار الصمت والخوف.
وهناك يد الله تعمل في الخفاء، وبيده وحده هلاك الظالمين، كيفما شاء ووقتما شاء. نعود ونقول: الشعوب قابلة للتغيير وبسرعة فائقة، إذا توفر لها نظام سياسي رشيد. فإذا رأيت بلداً غارقاً في الجهل والمرض والتخلف، ويعاني من أمراض اجتماعية مهلكة، على الرغم مما يمتلكه من موارد بشرية وطبيعية وتجانس اجتماعي، "ابحث عن النظام السياسي"، قياساً على قول الفرنسيين "ابحث عن المرأة".
avata
avata
محمود صقر (فلسطين)
محمود صقر (فلسطين)