كرزة أمي

كرزة أمي

07 يوليو 2015
+ الخط -

تروي أمي أنها لم تزرعها، وأنها تعتقد أنها، كالسحر، نبتت وحدها. وفي مراتٍ، تروي صيغة أخرى، فتقول إنها كانت تقريباً عوداً يابساً، ولكن يدها الخضراء التي غرزته في الحوض، أرسلت فيه النسغ وبثته الحياة، فنما وكبر حتى صار شجرة كرز تعلو وتعلو لتطاول السماء.

وأمي التي كان لها أهل يملكون أراضي كثيرة راح بعضها هبةً على يد والدها القبضاي، "كَـيفا ومزاجا" في بعض الأحيان، ونكاية، في أحيان أخرى، بإخوانه من الملاكين الكبار، لطالما اعتبرت أن رزق العالم كله حلال لها، فكانت تحاجج غاضبةً، كلما رفض أبي أن يقف على قارعة الطريق، لتنزل هي، فتجمع بعضاً من أوراق الدالية الندية الخضراء، لتقطف عنباً أو تفاحاً أو تيناً، أو سواها من الثمار الصيفية الناضجة، خلال مشاويرنا إلى الجبال القريبة والبعيدة. كانت تحاجج ولا تيأس، فتعيد الطلب وتستحلف وتلحّ، كلما وقع نظرها على حقل، أو كلما مرت بالقرب من بستان، وتنتهي بأن تتّهم والدي بأنه بخيل وليس ابن رزق كريم، فيضحك أبي بطبعه الرضيّ المعهود، واعداً بأن يشتري لها من أفضل وأكبر دكان، كل ما شاءت من الفواكه والخضروات، ولو كان بأفدح الأسعار.

وأمي التي لم تتعزَّ عن ذهاب ما بقي من أراضي أبيها إلى أخيها الذكر الوحيد، وعن زواجها من مالك أرض تقع أرضه في القاطع الثاني، أي ما وراء الجبل، وهي أرض اضطرا لاحقاً إلى بيعها لشراء شقة في بيروت، هدمت البيت الجبلي الحجري الذي كانت تتقدّمه "حاكورة" تُنبت فيها كل ما تحتاجه من خضروات الصيف وثماره، واستبدلته ببيت من الباطون، قضمت شرفتُه الجنينةَ الصغيرة ورفعتها إلى مستوى الطريق. هكذا رأى النورَ حوضان يحيطان بالشرفة، وحوضٌ ثالث يعلوها، كانت تزرع فيه الأعشاب والبصل الأخضر وبضع شتلات بندورة ولوبياء وخيار، ثم أضافت لاحقاً أحواضاً أخرى، سوّرت البيت وقضمت من الطريق، ومزاراً للسيدة العذراء يبرّر زراعة الزهور، وبعض الأعشاب الأخرى المرافقة لها كالنعناع والبقدونس والصعتر البري.

وإذ كان ينقص جنينة أمي المبتكرة المقسّمة إلى عدة أجزاء، غير مجتمعة، أشجارُ فاكهة، زرعت في الحوض إلى يمين الشرفة شجرة مشمش، وإلى يسارها شجرة كرز ظلت تتحايل على البلاط والباطون والحديد، حتى علت وتجاوزت السقف، ففردت أغصانها متحررة، مُنبتة حبّات كرز سوداء لمّاعة، على ما يلزم من تماسكٍ وليونة، حلاوة وحموضة، حتى بتنا، في بداية كل صيف، ننتظرها لنأكل نحن وأهل الحي والعابرون في الجوار، من كرزها الذي يفوق بطعمه الاستثنائي أشهى الكرز على الإطلاق.

ولأن كرزة أمي نمت في غياب بعضنا، فقد كانت أمي تتحسّر وتتألّم، لأننا لا نتذوق من ثمارها الخيّرة التي توزّع منها أكثر مما تستهلك، ولأننا حين نأتي، تكون قد أعطت آخر حبّاتها، وكبت بانتظار الصيف التالي. وحين نتصل من هواتفنا البعيدة، تبقى تخبرنا أن كرزتها أثمرت، وأنها تشعر بالغصة، لأن الجميع يأكل منها، ما عدانا، نحن الغيّاب. إلى أن اكتشفت الطريقة التي تتيح لها أن تحتفظ لنا ببعضها، منقوعة في عصير السكر، أو مخبّأة في كيس في الثلاجة، يضمن أصالة نكهتها.

اليوم، وقد شاخت أمي، وأكل دود النسيان عقلها، وما عادت قادرة على تذكّر شجرتها الغالية على قلبها، نتحرّق نحن في بداية كل صيف على الكرزة التي تقتات منها العصافير، ويؤمّها الجيران، ويباركها العابرون، مرددين، في سرّنا، ما كانت أمي تبرزه حجة أخيرة لإفحام أبي، إذ يرفض السماح لها بقطاف ما يسيل له لعابها: "الرزق الذي لا يُطعم لا يُثمر، يا ابن الناس"... هكذا أثمرت كرزة أمي فاكهة وخيراً، حتى تحوّلت إلى بستان.

 

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"