عن مشروع إقليم كردي في شمال سورية

عن مشروع إقليم كردي في شمال سورية

05 يوليو 2015

سوريون أكراد يراقبون عند الحدود التركية معارك كوباني (أكتوبر/2014/Getty)

+ الخط -
ليس المهم أن أكراد شمال سورية في معظمهم، عدا من كانوا في عفرين، هم وافدون من خلف الحدود السورية التركية، كي يتوقفوا عن الدعوة إلى إقامة كيان كردي في شمال سورية. إذ يشكل غياب الدولة المركزية القوية، والفوضى التي تعيشها سورية اليوم، فرصة تاريخية لإقامة كيان كردي شبه مستقل، يربطه خيط واه بسلطة دمشق الضعيفة، على غرار شمال العراق الذي يعامل بقية العراقيين كأجانب. ويرى القوميون الأكراد أنها فرصتهم لاسترداد "حقوقهم التاريخية"، وأن الجزيرة السورية "روج آفا"، كما سموها، وشمال سورية هي أرضهم التاريخية، وقد باتوا يسمونها "كردستان الغربية"، وأن العرب في مناطقها وافدون، وأن تهجيراً وإحلالاً قسرياً جرى ضدهم، وجاء الوقت الذي تسترد فيه حقوقهم، وأن تكف خيراتهم من نفط وقطن وقمح من أن ترسل الى مناطق سورية الغربية.
في السابق، لم يكن غالبية الأكراد السوريين يدعون إلى مثل هذا الكيان، بل كانوا يطالبون بحقوق لها طابع ثقافي وعدم التمييز ضدهم. ولكن، وبعد 1992 وقيام إقليم كردستان العراقي بدعم أميركي، نمت في صفوفهم ميول قوية بهذا الاتجاه، لكن ضغط النظام قمعها بقوة، فبقيت تطلعات الأحزاب الكردية إلى حل ديمقراطي للقضية الكردية لا يصل إلى قيام أي نوع من الحكم الذاتي على غرار العراق. الظروف اختلفت الآن، فغيّرت جميع الأحزاب الكردية برامجها باتجاه شبه انفصالي. وهم يحملون حلم الدولة القومية الكردية المستقلة التي أقرتها معاهدة سيفر 1919، والتي كانت ستضم جزءاً كبيراً من شرق تركيا وشمال العراق وجزءاً من غرب شمال إيران، ولم يكن أي جزء من سورية في خريطة الدولة الكردية آنذاك، ثم وأدتها معاهدة لوزان 1921 تحت ضغوط الدولة التركية الفتية. ويجد الأكراد السوريون الظروف مواتية الآن، ضمن هذه الفوضى الداعشية والدعم الأميركي الذي يكاد يرسم حدود كردستان بقصفه.
كان حزب الاتحاد الكردستاني "البي يي دي" الأكثر اندفاعاً، وقد أقام تحالفاً مع النظام، وقد قام النظام منذ اواخر 2012 بتسليحه ومنحه المال والمقرات والمعسكرات وحقول النفط، ما أعطاه تفوقاً على بقية القوى الكردية. وقد باشر الحزب بإقامة كيانه الكردي في شمال شرق سورية، فأصدر دستوره وشكل برلمانه وجيشه وجهاز أمنه ومؤسساته، ويتصرف في المناطق التي يسيطر عليها كسلطة مستقلة، تحت ما يسمى حكماً ذاتياً و"لامركزية سياسية"، بما يشبه كيان كردستان العراق. ويضم الإقليم الكردي المتخيل في كامل شمال سورية منطقة واسعة، تنتج نحو 200 ألف برميل نفط قابلة للزيادة، وأراضي زراعية واسعة خصبة، تتوفر لها مياه من عدة أنهار، مثل دجلة والفرات والخابور والجغجغ ونهر قويق وأنهار عفرين الصغيرة، وستشكل مع كردستان العراق فضاء جغرافياً ومجتمعياً واقتصادياً كردياً واسعاً. وهذا ما يجعل أعداداً أكبر من الأكراد تؤيد هذا الحلم.
يعلم حزب "البي يي دي" وبقية الأحزاب القومية الكردية، أنهم لن يستطيعوا إعلان دولة مستقلة كلياً. ولكن، سيوافق الأميركيون، وقد يوافق الأتراك مضطرين على كيان شبيه بكردستان العراق. وفي مسعى منه للتغطية على ما يفعله جهاراً، يصرح رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، أنه ليس مع تقسيم سورية، بل مع وحدتها، وأن الحكم الذاتي واللامركزية السياسية ليسا تقسيماً لسورية ولا تهديداً لوحدتها. وتؤيده في ذلك معظم الأحزاب القومية الكردية الأخرى. ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من اتفاقه وتنسيقه مع النظام، فهو يصرح أنه مع تغيير النظام الديكتاتوري، وقد بات من مصلحة مشروع الكيان الكردي وجود سلطة مركزية ضعيفة في دمشق، بقي نظام الأسد أم ذهب، وأن ينتشر في سورية وباء كانتونات الإدارات الذاتية شبه المستقلة.

تكبر تعقيدات الكيان الكردي ومخاطره بسبب الأوهام القومية الكردية، فهم يتطلعون إلى توسيع إقليم "كردستان سورية" ليضم مناطق وجود الأكراد المتباعدة في شمال سورية، والتي تفصل بينها مئات الكيلومترات من المناطق التي يقطنها عرب ويضمها إلى إقليمه، وسيشكل العرب حينها غالبية كبيرة من السكان. فالأكراد يوجدون في ثلاث مناطق رئيسية متباعدة عن بعضها في شمال سورية: تقع الأولى في أقصى شمال شرق سورية، وهي الرئيسية، ويتركز وجود الأكراد فيها بين ديريك والقامشلي. وتحت هذا الخط ببضع عشرات الكيلومترات، يصبح العرب يشكلون غالبية السكان، بما في ذلك مدينة الحسكة، بعد أن هاجر معظم السريان والآشوريين من هذه المنطقة. ويقدر أن الأكراد يشكلون أقل من 40% من مجمل سكان محافظة الحسكة التي يدرجونها بكاملها ضمن خريطة كردستان الغربية. والثانية في منطقة عين العرب، ويفصلها عن المنطقة الأولى نحو 200 كم، معظم سكانها عرب، والثالثة في منطقة عفرين شمال غرب حلب، ويفصلها عن منطقة عين العرب مئات الكيلومترات من مناطق عربية. وللغرب من عفرين باتجاه ادلب والساحل، وهي منطقة تمتد مئات الكيلومترات، ولا وجود يذكر للأكراد.
مما يجعل القوميين الأكراد يندفعون وراء هذا التوسع أن أعداداً كبيرةً من سكان تلك المناطق تم تهجيرهم ببراميل النظام ومدفعيته، ويشكل قتال داعش فرصةً أخرى لتهجير أعداد أكبر، ويتهم السوريون حزب البي يي دي بأنه يعمد إلى تهجير العرب ومنعهم من العودة إلى بيوتهم، وينفي هو ذلك. وفي الواقع العملي، يصعب تهجير العرب من كل تلك المناطق الواسعة، ولكن، يتطلع "البي يي دي" والأحزاب القومية الكردية إلى التفاهم مع العشائر العربية، لإقامة حكم ذاتي يقوده الأكراد. ومن الناحية الواقعية، سيشكل هذا التوسع مستقبلاً مقتل الحلم بكيان كردي شبه مستقل. لذا، يخشى منه بعض القادة الأكراد، ويدعون إلى حصر الكيان الكردي في مناطق الغالبية الكردية في شمال شرق سورية.
ترى القوى والشخصيات الكردية ذات الانتماء الوطني السوري أن هذا ظرف مؤقت، وأن حقائق التاريخ يصعب طمسها وفرضها بالقوة بهذا التطرف، وأن مطامع بعضهم بربط مناطق الأكراد الثلاث في شمال سورية أمر غير واقعي، أما التمدد إلى البحر المتوسط فهو ضرب من الخيال. وهم يرون أنها فرصة لوضع حل وطني سوري ديمقراطي عادل لقضية الأكراد السوريين تجاه التمييز الذي لحق بهم في العقود السابقة، وأسوة ببقية السوريين، وضمن وحدة سورية أرضاً وشعباً، بدلا من مشاريع شبه انفصالية، ستخلق مشكلات كبيرة في المستقبل.
في النهاية، القوة والظروف التي ستسود مستقبلاً ضمن هذا الصراع الدائر المتحرك، هي التي ستشكل الواقع، وتنشئ الحقوق أو تغيرها. فإن استطاع القوميون المتطرفون الأكراد، بمساعدة تلك الظروف ودعم الأميركيين وصمت الأتراك ولو على مضض، فرض مشروعهم التقسيمي على سورية، سيكون لهم ذلك، وسيشبه هذا الجزء من الأراضي السورية اسكندرون وحتى الجولان، وإن استطاعت سورية لملمة جراحها في السنوات المقبلة، فستجعل المتطرفين يدفعون الثمن.
فمن سيمتلك قوة أكبر وتساعده الظروف ليفرض حله على الآخر؟ ثم من سينتصر في النهاية، قوة المنطق أم منطق القوة؟