ولائم القتل العربية

ولائم القتل العربية

20 يوليو 2015
+ الخط -
الخبر بالغ التقليدية، ومن فرط رتابته، لا يحسن أن يحظى بالصدارة في نشرات الأخبار. موجزه أن 120 قتيلاً و130 جريحاً سقطوا في تفجير سيارة مفخخة في سوق شعبي في العراق، يوم العيد، فليس الذين أزهقت أرواحهم أوّلين في هكذا حادث، ولن يكونوا الأخيرين. سبقهم عشرات الآلاف، مضوا إلى دار الحق في أحداث من هذه السويّة، في أسواق ومساجد وحسينيات وشوارع وطوابير ومستشفيات، في العراق، منذ أزيد من عشر سنوات. ولا يعني شيئاً أن المنطقة التي شهدت الجريمة الجديدة ذات أغلبية شيعية، وأن داعش من جهرت بالمسؤولية عن المقتلة، في بيان ذاع باسمها. هذه تفاصيل نافلة، فقد اعتدنا على تلقي أخبار غزيرة مثلها. أما وأن قطعاً من جثث الضحايا تطايرت فوق أسطح المباني القريبة من التفجير، وأما وأن ناساً استخدموا أقفاص الخضروات لجمع أشلاء أطفال قضوا في الواقعة، فأمران مثيران ولا شك، لكننا لم نعدم، في أغلب ولائم القتل المتنقلة في العراق، مشاهد من هذا الطراز، ومن ذلك أن صناديق كرتونية للموز حفظت فيها رؤوس قطعت، في بلدةٍ عراقية، لا يهم اسمها.
لم يكن ضرورياً أن تأتي وكالات الأنباء التي طيّرت خبر السوق العراقي المنكوب على أنه في بلدة في محافظة ديالى التي "تضم خليطاً عرقياً طائفياً"، فالأهم أن ثلاثة أطنان من المواد المتفجرة استخدمها الانتحاري في فعلته. لنا أن نسلّي أفهامنا في قدرة العقول التي دبّرت وخططت في جمع هذه الكمية، وتصنيعها وتخزينها، وفي حذاقة الأجهزة الأمنية والعسكرية والمخابراتية في العراق، الجديد على ما أحبّوا تسميته عشية احتلاله، وقد تمكنت السيارة من العبور إلى السوق، بكل تؤدة، وأنجز "المجاهد" الغضنفر فيها ما أراد. لندع قصة الخليط الطائفي تلك، ونحدّق في أن 200 مليار دولار صرفتها حكومات ما بعد غزو العراق على الملف الأمني، حرصاً على حماية العراقيين، وتأكيداً على أولوية أن يرفلوا في فائض من الدعة وهناءة البال. أما وأن عكس ذلك كله ما جرى وصار، فلأن لله ما أعطى وأبقى، وكل شيء مكتوب ومقدّر.
ولكن، لم يعد العراق، في أطواره الأميركية والإيرانية والداعشية الراهنة، وحده في الخريطة العربية الماثلة يستأثر بهذه الفرادة من التمويت والتقتيل في أسواقٍ شعبية، وفي لملمة ما يتناثر من الجثث، فثمة صنوف من هذا وغيره ينشط مقترفوها، بهمةٍ ودأب ظاهريْن، في الجوار السوري، يشترك فيها نظام ذو سجل عتيد في الفتك بالناس، مع شياطين الإرهاب الأعمى. ولأن هذا النشاط يومي، وأعداد الضحايا تعصى على العد والإحصاء، تختص بتوثيقها مراكز رصد وبحث متخصصة، شكر الله سعيها، لا مدعاة لتنغيص مزاجنا العام، وفيه ما فيه، بمثل هكذا حسابات وأرقام. ولأن الذكرى تنفع المؤمنين، جعلنا رب العزّة منهم دائماً، يحسن أن نتذكّر أن العراق وسورية بلدان عمودان ومركزيان في المشرق العربي، هما جناحاه اللذان راهنت الأمة عليهما عقوداً، من أجل أن ينهضا بها. ولكن، لا نسألك، ربّنا وهادينا، إلا اللطف في أقدارك، وأنت على كل شيء قدير.
ذلكما الجناحان، أما القلب، فثمة مصر، وفيها بلدة اسمها الشيخ زويد، نظنها تتقدم إلى شهرة عريضة بين مطارح العرب، لتصطف مع ديالى والأنبار وريف حلب والرقة، ومع الضالع ولحج أيضاً. هذه البلدة وجوارها في سيناء لا تبخل على النظارة العرب بالجديد الذي يمضي إلى الرتابة المعهودة، فهل من انتباهٍ يستحقه مقتل ثلاثة من الجيش المصري، في اليوم الثاني للعيد، ثم مقتل 45 إرهابياً، على ذمة الجيش نفسه... هي ولائم القتل العربية، لها تنويعاتها، تتوالى أخبارها تباعاً، وإذا ضجرتَ منها، لك أن تتسلّى بتخمين ما تم إنفاقه على أجهزة الأمن والشرطة والجيوش، السورية والعراقية والمصرية... والجزائرية إنْ لديك الوقت.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.