الإخوان.. الانتحار بديل السلمية

الإخوان.. الانتحار بديل السلمية

13 يوليو 2015

مرشد الاخوان محمد بديع ببدلة الإعدام (إبريل/2015/الأناضول)

+ الخط -
ثمّة أسباب وعوامل متعددة، تدفع بشباب "الإخوان المسلمين" في مصر إلى حالة اليأس والإحباط من إصرار قيادة الجماعة (في السجون) على الخيار السلمي، ورفض الإنصات لأصوات الشباب المتعالية في الميدان، الذين يطالبون بالانتقام والقصاص، والتحول نحو عمل أكثر شراسة، مثل الشعار الذي يرفعه بعض الشباب "ما دون الرصاص فهو سلمية"، أو تصريح بعضهم الآخر بضرورة التحول نحو العمل العسكري، والتفكير في ثورة إسلامية، بدلاً من الديمقراطية التي لم تأتِ بنتائج، طالما أنّ العسكر والنخبة السياسية والغرب جميعاً متواطئون ضد هذا المسار، إذا كان سيأتي بإسلاميين.
ينظر شباب "الإخوان" إلى أفق مسدود، عبر المسار الراهن، مع إصرار نظام عبدالفتاح السيسي على إلغاء أي هامش، أو أمل في تغييرات سلمية، ومع أحكام الإعدام التي أصدرها على الآلاف من أبناء الجماعة وأنصارها وقياداتها، وأخيراً، الوصول إلى مرحلة "التصفية الجسدية" لتسعة من القيادات، بدمٍ بارد، بدلاً من اعتقالهم، بينهم عضو مجلس الشعب السابق ناصر الحافي، فيما تشير دلائل متعددة إلى اعتماد النظام أسلوب التصفية المباشرة مع حالات أخرى.

مثل هذا المناخ الأمني الاستبدادي، بالتزامن مع حملات إعلامية مسمومة تشيطن "الإخوان"، بالتوازي مع "خيانة النخبة المصرية" (العريضة التي تقف مع النظام) للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، كل ذلك من الطبيعي أن يخلق هذه المشاعر الانفعالية لدى جيل الشباب، وهو ما ظهر، في بيانات نارية للمتحدث باسم الجماعة، محمد منتصر، وما تلاها من سجال مع القيادات التقليدية التي تصرّ على الخيار السلمي، وتحذّر من الانجرار إلى هذا المنحدر؛ أي الاتجاه إلى العنف والعمل المسلح.
على الطرف الآخر، عزّز من دعوات "العودة عن السلمية" ما حققه تنظيم الدولة الإسلامية من انتصارات عسكرية ساحقة على الجيوش النظامية، وما وصل إليه النظام السوري من انحسار وتراجع عسكري كبير في الآونة الأخيرة، فبدأت ليس فقط في أوساط إخوان مصر، بل حتى الشباب الإخواني عربياً، دعوات مماثلة، إلى إعادة التفكير في المقاربة السلمية، وحول قيمة "القوة" في النزاعات الداخلية الراهنة، مع انسداد الآفاق السلمية في دول عربية عديدة، وفي إطار المواجهة مع الثورة المضادة.
من الواضح أنّ النظام المصري والإعلام، ومعهم الأجندة العربية المحافظة (التي تقود الثورة المضادة إقليمياً) كانوا يسعون إلى جرّ "الإخوان" جرّاً إلى العمل المسلّح منذ اللحظة الأولى، فهم من اللحظة الأولى للانقلاب وضعوا "الإخوان" في خانة "الحرب على الإرهاب"، لكنّ هذه الأجندة فشلت، في العامين الماضيين، في أن تزحزح الجماعة عن الخطّ السلمي، ما أحرجها دولياً وعربياً، ودفع شريحة واسعة من الرأي العام العربي والغربي إلى التعاطف معها، وانتقاد ممارسات السيسي ونظامه.
أكثر ما يخدم النظام المصري، اليوم، هو أن ينخرط "الإخوان" فعلياً في العنف، ويتخلوا عن السلمية، فهذا السيناريو، عملياً، ينقذ النظام ويعزز أجندته ودعايته السياسية، بينما هو اليوم يغرق، بصورة متدرجة هادئة، بسبب سياساته القمعية والأمنية.
لماذا التحول عن السلمية بمثابة انتحار للجماعة؟
أولاً، لأنّ الجماعة نفسها مرّت بتجارب عديدة في أكثر من دولة عربية في استخدام العنف، ففي مصر كان "النظام الخاص"، وفي سورية "الطليعة المقاتلة"، وجميعها تجارب جرّت ويلات على الجماعة. لكن السيناريو الأكثر وضوحاً واقتراباً من المشهد الإخواني هو الجزائري بعد عام 1992، مع جبهة الإنقاذ الإسلامية (كانت حركة سلمية وليست إخوانية)، حتى تجارب الجماعات المسلحة في مصر (الجهاد والجماعة الإسلامية) لم تنجح في إقناع الشارع بالثورة المسلحة، بل خدمت السلطة في تأميم الحياة السياسية وشرعنة المنظور الأمني والعسكري.
ثانياً، إذا نظرنا إلى التجارب التي ينظر لها شباب "الإخوان"، اليوم، بوصفها تجارب ناجحة، مع "عسكرة الثورة"، فهي في صميمها ليست كذلك، فالوضع في سورية والعراق وليبيا واليمن يزداد سوءاً، حتى مع تراجع الأنظمة أو المليشيات على الطرف الآخر، فهنالك حالة أشبه بالحروب الأهلية والصراعات الداخلية وبحور من الدماء وآلاف المعتقلين واستباحة لمعاني الحياة والإنسانية كافّة.

لا تختلف الحال في مصر من زاوية وجود انقسام اجتماعي شديد، واستقطاب سياسي، لكن الاختلاف أنّ هنالك هامشا كبيرا وممكنا من الحراك السياسي السلمي، والاحتجاج الخلاّق في مواجهة الانقلاب، وإصرار "الإخوان" على المنهج السلمي، في مقابل تبني أنصار بيت المقدس (تنظيم الدولة الإسلامية- ولاية سيناء) الخيار العسكري، يجلّي بوضوح الفرق بين الأجندة الوسطية الديمقراطية التي يمسك بها "الإخوان" والبديل الآخر المطروح في الشارع؛ الإسلام المتشدد على غرار داعش وأخواتها.
إذا قفزنا عن ملاحظات كثيرة يمكن أن تقال في هذا الباب، في أخطار العدول عن السلمية وأضراره، فإنّ نقطة أخيرة مركزية مهمة من المفترض ألا تغيب عن الأذهان، وهي أنّ إصرار "الإخوان" على السلمية يعزز من ثقافة الديمقراطية واحترام كرامة الإنسان وأنسنة المجتمعات وتحريم الدماء والاعتداء على الآخرين، وتجذير هذه الثقافة أهمّ بكثير من أيّ مكسب سياسي، أو محاولات انفعالية للرد على الظلم والاضطهاد، فهي الثقافة التي نحتاج إليها فعلاً في العالم العربي، مع هذا الانحطاط الطائفي والعصابي واستسهال القتل والذبح والتكفير، ووصول المجتمعات إلى مرحلة خطيرة من التحلل الأخلاقي، في استباحة الدماء والأعراض وانتهاك كرامة الإنسان.
ليست مناقشة مخاطر العمل المسلّح أمراً جديداً، بل تمثّل جزءاً أساسياً ومهماً من الأدبيات الإسلامية المعاصرة، وربما من تجدر قراءة مؤلفاته في هذا المجال المفكّر السوري، جودت سعيد (لُقّب بغاندي العرب)، وهنالك كتابات متميزة في هذا الشأن لعبدالحميد أبوسليمان، وغيرهما.
ما البديل؟ البديل هو النموذج التركي، فالإعدامات والقتل والإلغاء والتنكيل من الجيش بالأحزاب الإسلامية، على مرّ العقود السابقة، لم يدفعهم إلى العنف أو العمل المسلّح، بل إلى تطوير أدواتهم السلمية والسياسية، وصولاً إلى تجربة حزب العدالة والتنمية التي استطاع من خلالها الرئيسان، الحالي رجب طيب أردوغان، والسابق عبدالله غول، أن يكسرا الحلقة المفرغة، ويخرجا من الديمقراطية المقيّدة بقرار العسكر. فأين هو النموذج الجزائري اليوم وأين هو النموذج التركي؟ لكم أن تقارنوا!
كلمة أخيرة ومهمة؛ الاتجاه إلى العمل المسلّح مسار متدحرج يبدأ بردود فعل، ثم تتلوه فتاوى فقهية، ثم تحولات في القيادة والنخبة المسيطرة على الجماعة، وصولاً إلى تغييرات بنيوية، وهي شروط لا يمكن، في ظل الصراعات الداخلية، أن تبقى معها جماعة معتدلة وسطية ديمقراطية، فستتحول الجماعة نفسها إلى المسار المتشدد، ويعلو التيار الذي لا يؤمن بالديمقراطية والتعددية وتداول السلطة، وهي نتيجة أخطر بكثير مما تمر به الجماعة، حالياً، على الرغم من قساوته ولا إنسانيته.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.