الكويت.. انفتاح وتوترات يغذّيها الخارج

الكويت.. انفتاح وتوترات يغذّيها الخارج

02 يوليو 2015

كويتية تدلي بصوتها في انتخاب مجلس الأمة(2 فبراير/ 2012/أ.ف.ب)

+ الخط -
يعتبر الانفجار الدامي الذي وقع في مسجد الإمام الصادق في الكويت (26 يونيو/حزيران الماضي)، وأودى بـ 26 ضحية، جريمة شاذة في أسلوبها، وفي مسرح الحدث، وفي الضحايا المستهدفين. فمع الإقرار بتوترات سنية شيعية في هذا البلد، تتغذى أساساً من عوامل خارجية، فإن العلاقة الشعبية بين السنة والشيعة ظلت قائمة في منطقة أمان اجتماعي، مع حرص السلطات على الحد من هذه التوترات، والسعي إلى احتوائها، بالتشديد على جوامع وطنية مشتركة. وإعلان داعش مسؤوليته عن الجريمة، بحد ذاته، مؤشر على شذوذها وخطرها. 

على أن نظرة إجمالية على المسار السياسي والوطني والأمني للكويت، خلال العقود الستة الماضية، يبين أن التوتر الأمني الخارجي المصدر رافق، بل سبق، ظهور الدولة الوطنية المستقلة. إذ يعود مسلسل التهديدات التي تعرضت لها الكويت إلى ما قبل استقلالها في 19 يونيو/حزيران 1961، فقبل ذلك التاريخ بسنوات، وما إن نجح الانقلاب/الثورة في العراق، بقيادة عبد الكريم قاسم، في يوليو/تموز 1958، حتى بادر أمير الكويت، الشيخ عبد الله السالم الصباح، لزيارة بغداد، والتقى مسؤولين فيها، لكنّ بيانا لم يصدر في بغداد عن الزيارة. كانت الكويت تتهيأ لتجميد اتفاقية الحماية البريطانية وإلغائها، تمهيدا لإعلان الاستقلال، وترغب في تسوية مسألة الحدود.

في العام 1960، وجه أمير الكويت رسالة إلى القيادة العراقية، دعا فيها إلى مناقشة قضية الحدود، من دون أن يتلقى رداً، وخلافا للياقات الدبلوماسية بين الدول. وفي العام التالي، كرّر الأمير إرسال الرسائل، فبعث رسالة أخرى، تحمل المضمون نفسه. وقد تلقى رداً من الخارجية العراقية بعد مضي شهرين، يفيد بأن الخارجية العراقية تدرس مضمون الرسالة. وكان جلياً من السلبية العراقية أن الحكم الجديد في بغداد يضمر سوءاً تجاه جاره الذي أعلن استقلال بلاده. وكان رد "الحكم الثوري"، في 25 مايو/أيار من ذلك العام، أن أعلن الزعيم الأوحد، في مؤتمر صحافي عقده في وزارة الدفاع، عدم اعترافه باستقلال دولة الكويت، مطالبا بإعادتها إلى العراق، باعتبارها قضاء عثمانيا تابعاً لولاية البصرة.
تبع ذلك تحشيد حشود عراقية على الحدود مع الكويت، فيما أعلنت بريطانيا، بالاتفاق مع دولة الكويت حديثة الاستقلال، إعادة تفعيل اتفاقية الحماية الموقعة عام 1899، والتي جرى وقف العمل بها عشية الاستقلال. ونزلت قوات بريطانية إلى الأراضي الكويتية، كما وصلت إليها قوات أردنية وسودانية وسعودية، وأخرى تتبع الجمهورية العربية المتحدة. وقد فوجئ الحكم في بغداد بأن مطالبه لا تلقى استجابة عند أحد، باستثناء الاتحاد السوفييتي، آنذاك، الذي ركز على سحب القوات البريطانية من الكويت، غير أن وجود قوات عربية وأجنبية أوقف شهية عبد الكريم قاسم لاجتياح البلد الجار.
كان من شان تلك الأزمة أن جعلت استقلال هذا البلد محفوفاً باستشعار المخاطر من شقيق جار. وأعاق انضمام الكويت إلى الأمم المتحدة أكثر من عام. وقد رافق هذا الهاجس مسيرة الكويت إلى أمد طويل، حتى جاء الاجتياح والاحتلال على يد نظام صدام حسين في أغسطس/آب 1990 الذي دام سبعة أشهر، وتكفل تحالف دولي وإقليمي واسع بإخراج قوات صدام حسين من الكويت، في ما عرف بـ "عاصفة الصحراء"، وبتفويض من الأمم المتحدة، وذلك على الرغم من وقوف الكويت مع العراق، في حربه الطويلة الطاحنة مع ايران. وقد استغل النظام العراقي، آنذاك، خلافاتٍ حول استخراج النفط، وحول ديون كويتية على العراق، ليقوم باجتياحه الذي أعلن فيه الكويت محافظة تاسعة عشرة. بل إن أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح، كاد يدفع حياته، ثمناً لوقوف بلاده مع العراق، في حربه مع إيران، إذ تعرض، يوم 25 مايو/أيار 1985، لمحاولة اغتيال استهدفت موكبه، وجرى توجيه الاتهام، آنذاك، إلى حزب الدعوة الإسلامي الذي يلقى رعاية إيرانية، وبالذات إلى شخص جمال جعفر علي الإبراهيمي، المعروف بمهدي المهندس، وهو حالياً من أبرز قادة مليشيات الحشد الشعبي في العراق، وكان ذلك الحادث الإرهابي الأبرز الذي سبقته ولحقته أحداث أخرى متفاوتة في خطورتها.
وشكل هذا القوس من التوتر الذي أحاط بالدولة الفتية ثلاثين عاماً التهديد الرئيس لهذه الدولة، لكنه لم يكن التهديد الوحيد، فقد انتهجت الكويت، منذ بدء استقلالها سياسة ذات طابع عروبي، بقيادة أميرها المؤسس، عبد الله السالم الصباح، الذي رفع شعار "الكويت بلاد العرب"، وهو ما جذب الخلافات العربية المنحدرة من الاستقطاب الدولي إليها. سياسته العروبية ناجمة عن خيارات وقناعات لأميرها المؤسس، واعترافا بفضل جامعة الدول العربية التي وقفت مع الكويت في أزمتها المبكرة، وكذلك تقديراً لإيفاد قوات عربية إلى الكويت، وهي قوات جمعت بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية)، على الرغم من الخلافات السعودية المصرية المحتدمة آنذاك. ذلك جعل الكويت تنأى عن الخلافات العربية، وتسعى، في تلك المرحلة، إلى التقريب بين الفرقاء، وكان وزير الخارجية صباح الأحمد (أمير الكويت الحالي) من أبرز رجالات الدبلوماسية والوسطاء العرب في الخلافات العربية البينية.
ونظراً لانفتاح هذا البلد، وتمتعه بأول برلمان منتخب في منطقة الخليج، وبصحافة حرة نسبياً، ومع وجود جماعات سياسية معترف بها واقعياً وليس قانونيا (القوميون العرب وجماعة الإصلاح "الإخوان")، فقد مثّل هذا البلد، منذ استقلاله وحتى غزو صدام حسين، ملتقى للتيارات السياسية والإعلامية العربية، على غرار ما كان عليه لبنان، حتى العام 1975. وطبع وجود جاليات عربية كبيرة، مع غض النظر عن الهجرة غير الشرعية إليه (التهريب، وهو ما صورته على سبيل المثال رواية غسان كنفاني الشهيرة، رجال في الشمس) هذا البلد بطابع عروبي، من وقائعه أن التحضير لإطلاق حركة فتح تم في الكويت، على أيدي الرواد الأوائل لتلك الحركة، ياسر عرفات، صلاح خلف، خالد الحسن، خليل الوزير.

وأدت سياسة الأبواب المفتوحة نسبياً، بالإضافة إلى المركز المعنوي المرموق الذي تمتعت به الكويت، إلى انتقال الخلافات وحرب التصفيات إلى أراضيها، وقد تطورت، في الأثناء، القدرات الأمنية لهذا البلد، وارتفعت وتيرة التنسيق مع دول خليجية وعربية وغربية.

مسلسل تفجيرات
مسلسل التفجيرات طويل، وعلى الرغم من أنه استهدف، في شطر كبير منه، شخصيات عربية وأجنبية تقيم في الكويت، أو تقوم بمجرد زيارة عابرة لها، بأكثر مما استهدف شخصيات كويتية أو مرافق محلية. ومن أبرز هذه الأحداث التفجيرات بين منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 1968، حيث تم تفجير قنبلة أمام السفارة الإيرانية، وقنبلة أخرى أمام قصر السلام/ وما بين 25 يناير/كانون الثاني 1969، حيث انفجرت عدة قنابل أمام مبنى وزارة الداخلية وأمام منزل وزير الداخلية، ولي العهد لاحقاً، الشيخ سعد العبدالله الصباح، وأمام مبنى مجلس الأمة، وقد وجه الاتهام إلى 21 شخصاً كويتياً، منهم الناشط السياسي الشاب آنذاك، والنائب والوزير لاحقاً، أحمد الربعي، مع فرار عدد منهم إلى الخارج. وقد جرى وضع هذه المتفجرات احتجاجاً على زيارة قام بها آنذاك شاه إيران، محمد رضا بهلوي. والمتهمون الذين شملهم عفو أميري لاحق في معظمهم قوميون عرب ويساريون ومؤيدون لجبهة تحرير ظفار آنذاك.
شهدت سنوات السبعينيات سلسلة تفجيرات واغتيالات ومحاولات اغتيال، شملت حردان التكريتي، نائب رئيس الجمهورية العراقية ووزير الدفاع السابق (1972)، وانفجار قنبلة في سيارة دبلوماسي أردني (1972)، تفجير مكاتب شركة التأمين الأميركية مرتين 1975و1976، العثور على قنبلة وتفكيكها أمام شركة مصر للطيران (1977)، اغتيال علي ياسين مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية (1978).
ولم تتوقف سلسلة الاعتداءات في عقد الثمانينيات، بل زادت وتيرتها: محاولة اغتيال وزير خارجية إيران، صادق قطب زادة (1980)، انفجار قنبلتين أمام مكاتب الخطوط الجوية الإيرانية (1980)، استهداف السفارة الإيرانية بتفجير (1980)، محاولة اغتيال مدير مكتب منظمة التحرير عوني بطاش (1980)، تفجير مبنى صحيفة الرأي العام (1980)، محاولة تفجير مبنى جمعية الإصلاح الاجتماعي (1980)، اغتيال الطبيب العراقي جاسم المشهداني (1981)، تفجير الشركة الكويتية الإيرانية للملاحة (1981)، محاولة اغتيال القائم بأعمال سفارة الإمارات (1982)، تفجير السفارتين الأميركية والفرنسية (1983)، اغتيال مساعد الملحق الثقافي العراقي، هادي سعيد، (1985)، محاولة اغتيال رئيس تحرير صحيفة السياسة، أحمد الجارالله، وإصابته بخمس رصاصات (1985)، تفجير خزانات النفط الشمالية والجنوبية في محافظة الأحمدي واشتعال النيران فيهما ثلاثة أيام (1985)، انفجار متفجرات عالية التركيز في مقهيين شعبيين (1985)، أودت بـ 11 قتيلاً، بينهم مسؤول أمني، (1985)، استهداف مجمع نفط الأحمدي بثلاثة تفجيرات متزامنة (1986). والقائمة طويلة، إذ تواصلت الاعتداءات والهجمات عامي 87 و88، وتجددت بعد تحرير الكويت من دون توقف. وقد تعرض نواب وصحافيون وفنانون للهجمات، وكذلك منشآت نفطية ومكاتب طيران.
إذا كان الهجوم على مسجد الإمام الصادق الجريمة الأبرز في سياق التشاحن الطائفي بين مكوني السنة والشيعة، فإن هذا التشاحن طبع الحملات الانتخابية للبرلمان بطابعه. ومع وجود أغلبية سنية تناهز 70% من إجمالي عدد الكويتيين البالغ نحو مليون و200 ألف نسمة، فإن "الأقلية الشيعية" لم تثر قضية خاصة بالشيعة، إلا في السنوات الأخيرة، فالحريات الدينية مكفولة في هذا البلد للمسلمين، ولغيرهم من مسيحيين وهندوس وسيخ وبوذيين.

عوامل خارجية ومعارضة "جديدة"
تتغذى التوترات بين المكونين الرئيسيين، أساساً، من عوامل خارجية، فقد شهدت السنوات العشر الأخيرة صعوداً في النفوذ الإيراني، ونزعة توسعية واضحة في اليمن والبحرين وسورية ولبنان والعراق. والأخطر هو الخطاب الإيراني الذي يصور جميع الشيعة، بمن فيهم العرب، أنهم يتبعون إيران، وأن هذه مسؤولة عنهم وعن حمايتهم. فيما زاد، في الأثناء، نشاط جماعات سلفية وجهادية سنية، بما في ذلك في الكويت التي شهدت صعوداً للمد السلفي، ترافق مع موجة الربيع العربي والانتخابات في مصر وتونس. ويتمثل الحركيون الإسلاميون، خصوصاً، في الحركة الدستورية الإسلامية (الإخوان) وجمعية إحياء التراث. ومن العوامل الخارجية ظهور جماعات سلفية وجهادية، في دول عربية عدة، منها سورية ولبنان والعراق. أما الحريات النسبية في الكويت، فقد جرى استغلالها لخطاب طائفي في منابر دينية وإعلامية عديدة.

في العام 2010، عملت السلطات في الكويت على سحب جنسية الناشط الشيعي، ياسر حبيب، بعد أن أقدم على سب الصحابة. كما كان لظهور قضايا فساد، أبرزها القضية المتعلقة بـ 13 نائباً، وظهور حركات شبابية، واقتحام البرلمان في خريف 2012 من مجموعات شبابية، بما أدى إلى تعزيز حالة من التوتر. هذا كله مع تنامي ظاهرة القبلية والمرشحين القبليين الذين يطالبون بحقوق وامتيازات لهم، وبعضهم ينسق مع إسلاميين سنة، وبعضهم يعمل مستقلاً، مثل النائب مسلم البراك، المحكوم حاليا بالسجن سنتين، بتهمة المساس بالذات الأميرية، وهو نموذج المعارضة الجديدة، مقابل معارضة سامي المنيس وأحمد الخطيب وعبد الله النيباري في العقود الثلاثة الأولى على الاستقلال. وإلى البراك، ثمة النائب عبد الحميد دشتي الذي دأب على إطلاق تصريحات تحت القبة، وخارجها، مثيرة لجدل شديد، ومنها إعلان وقوفه مع المعارضة الشيعية في البحرين، والزعم أن السعودية، لا إيران، هي من تشكل خطراً على الكويت، وإشادته ببشار الأسد، وقد رفع كل من السعودية والبحرين دعاوى قضائية ضده. وقد قدم دشتي استجواباً لوزير الخارجية، صباح خالد الصباح، حول مشاركة الكويت في حرب "عاصفة الحزم"، واضطر إلى سحب الاستجواب، بعد تصويت المجلس ضد أحد أبرز بنوده. وكان هذا النائب قد أعلن، قبل عامين، أنه بصدد الإعداد لتأسيس مجلس شيعي أعلى في البلاد.
أما الحركة السلفية في الكويت فتعتبر ذات نفوذ واسع داخل الكويت وخارجها، بل إن نفوذها الخارجي أقوى عبر ما بات يعرف بدعمها جماعات سلفية في مناطق مختلفة من العالم، بما فيها في لبنان وسورية. وقد برز داخل جمعية إحياء التراث تيار يسمى الحركيين، الذين يؤمنون بأن نشاط السلفية يجب ألا يتوقف نشاطهم عند العمل الدعوي، كحال التيار الأصولي. وهؤلاء معاً ينحون منحى طائفياً، ينتقد الشيعة بأقذع العبارات والتمدد الإيراني في العراق ولبنان وسورية. وتعتبرهم دوائر عديدة في العالم أنهم من أبرز الممولين للحركات الأصولية المسلحة في سورية. فيما ترعى إيران عشرات من منظمات شيعية أفغانية ولبنانية وعراقية مسلحة، تنشط في سورية والعراق.
ومن أبرز وجوه السلفية شافي العجمي وحجاج العجمي. وفي أغسطس/آب 2013، تم وقف برنامج تلفزيوني لشافي العجمي، لاتهامه بإثارة النعرات الطائفية. وشددت الحكومة مراقبتها على تحويل الأموال إلى الخارج، كما تم إيقاف قناة "الوصال" السنية، بتهمة تأجيج النعرات الطائفية.
وكما هو الحال في النهج البراغماتي لدى دول عديدة، فإن الحكومات الكويتية تلجأ إلى إقامة توازن سياسي على طريقتها، فقد رأت في صعود السلفيين، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فرصة لاحتواء جمعية الإصلاح ذات النزعة الإخوانية، والحد من تأثيرها. وقبل ذلك، رأت في نفوذ جمعية الإصلاح فرصة لإضعاف القوميين واليساريين. والآن، فإن الكتلة الشيعية النيابية، باستثناء النائب دشتي، تبدو أقرب للحكومة من السلفيين وبعض القبليين.
والراجح أن التوترات بين مكوني السنة والشيعة سوف تظل تتأثر بالعامل الخارجي، متمثلاً بالتوتر الجامح في المنطقة بين الشيعة السياسية والسلفية السنية من جهة، وبين طهران ومعارضي التمدد الإيراني وتنامي الحركات الأصولية، من جهة ثانية.