سماسرة الألم

سماسرة الألم

27 مايو 2015

من أوراق مشعوذين

+ الخط -
ليست المرة الأولى التي يتم اكتشاف "جدي" يدر الحليب، وهذه المرة كان الاكتشاف في غزة، وليس في مصر كما المرات السابقة، وقد سبق أن اكتشف جدي حلوب في مدينة الخليل، ومن الطبيعي أن يتهافت عليه الناس، للحصول على حليبه، طلباً للاستشفاء من أمراض مستعصية، كالسرطان والعقم، لكن صاحب "التيس الغزي" لا يبيع الحليب بسعر مرتفع، كما سابقيه ممن امتلكوا مثل هذا الكنز، غير أن وزارة الزراعة سارعت إلى إعدام "التيس" بقرار سريع، بسبب ما أثاره من لغط بشأن بركة حليبه السحري. 

التبرك وطلب الاستشفاء بأشياء غريبة ومستحدثة ظاهرة موجودة منذ الأزل في النفس الإنسانية التي تبحث دائماً عن الحلول الغريبة لكل ما هو مستعصٍ، وتبحث عن الخوارق وما وراء العقل، لتفسير ما يعيشونه من ألم نفسي أو عضوي. ولكن، في مقابل هذه الرغبة الطبيعية في نفس الإنسان، نجد من يستغلها، ويعمل على المتاجرة بها على حساب المريض، وابتزازه نفسياً ومادياً.

على سبيل المثال، تشهد محال العطارة والمكتبات في غزة هذه الأيام حركة بيع نشطة، مع قرب امتحانات التوجيهي "الثانوية العامة"، حيث يهرع أولياء الأمور لشراء أوراق مطبوع عليها آيات قرآنية بالحبر الأحمر، يدّعي باعتها أنه الزعفران، وتعلق المكتبات لافتات تشير إلى وجود هذه الأوراق، فيشتريها الآباء لحل الأزمة النفسية التي يمر بها أولادهم، حيث تمحى الكلمات في ماء ويشربه الطالب، لعلاجه من الحسد والسحر وعيون المبغضين والحاقدين الذين لا يريدون النجاح لأبنائهم.

ولا يقف الاستغلال والسمسرة عند طبقة معينة، بل تصل إلى طبقة الأطباء الذين من المفترض أن يداووا جراح الناس، ولا يثرون على حسابهم. وقد كنت في زيارة طبيب عيون وصف قطرة لعين ابنتي الصغيرة المرهقة من الدراسة، وطلب مني أن أشتريها من صيدليةٍ، تقع أسفل العيادة، فسألته عن السبب، فقال: لكي تحضريها لي، وأتأكد إن كانت من الشركة المصنعة أم هي تقليد لها؟ وفهمت الخطة، وهي أن الطبيب عقد اتفاقاً مع صاحب الصيدلية بأن يدل زبائنه المرضى على الصيدلية لترويج بضائعها، خصوصاً أنها حديثة الافتتاح، في مقابل حصول الطبيب على عينات مجانية من الأدوية وهدايا أخرى. ويحدث الأمر نفسه مع طبيب يحيلك إلى مركز تصوير بالأشعة السينية بعينه، على أنه المركز المتميز، وإلى مختبر تحاليل بعينه أيضاً، وأنت لا تدري أن هناك اتفاقيات مسبقة بينهم، وأن منافع مشتركة يتم تبادلها على حسابك.
وعلى الوتيرة نفسها، شهدت ما تعرف بـ "العيادات القرآنية" زيادة وانتشاراً لعلاج السحر والمس الشيطاني، ويتوجه لها الناس، بدعوى أنها مجانية. وبالفعل، يقرأ أشخاص القرآن مباشرة، أو يُسمعونه لمن يشكو من حالة نفسية مجهولة الأسباب وغريبة الأعراض، عن طريق سماعات الأذن. وعند خروج المريض، توصف له خلطات معينة للشرب والاغتسال والتبخر، وهذه لا تتوفر إلا في محل صغير ملحق بالعيادة، وعلى المريض أن يشتريها، ويعود بها إلى المعالج، لكي يصف له طريقة استخدامها، وهو يفعل ذلك، لكي يتأكد أنه اشتراها من هذا المحل بالذات وبالسعر المحدد، والذي يفوق السعر الحقيقي لها قطعاً.

وعلى ذلك، يكاد لا يخلو بيت عربي من أنواع البخور المختلفة التي تقتطع جزءاً من ميزانيته، لدفع الحسد المسبب للخلافات الأسرية، والاحتفاظ بالأزواج، والمستفيد الأول هم تجار هذه المنتجات ومروجوها. وعلى سبيل المثال، العود الذي تحرص عليه المرأة الخليجية خصوصاً بخوراً لبيتها ينتج بسبب إصابة أنواع من النباتات بأمراض معينة، فتختلف في شكلها ورائحتها عن الشجرة الأصلية، ويكون لها رائحة جميلة خاصة عند حرقها، وليتنا نفهم، نحن البشر، الرسالة التي تريد توصيلها إلينا هذه الشجرة، وهي أن المريض لا يداوي مريضاً.
سألتني صغيرتي سؤالاً محيراً، ونحن نبتعد عن عيادة الطبيب السمسار: ماذا يفعل الأجانب لو اكتشفوا "جدياً" يدر حليباً في بلادهم؟
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.