ميشال سماحة.. آكل الصبّار المضحك

ميشال سماحة.. آكل الصبّار المضحك

25 مايو 2015

ميشال سماحة (إنترنت)

+ الخط -
المشهد ناقص. رجل بذراعين ممتدتين، وكفّين مبالغ في حجمهما، يرسم دوائر في الهواء، ويضرب على صدره، ويتناول ثمار صبار مسكينة، تبدو ضئيلة بين أصابعه. وبينما يحاور الرجل الذي يخبئ الكاميرا، ويضعان معاً مخططا لقتل مجموعات من الناس السوريين واللبنانيين، ونواب، ورجال دين، يبدو وجه ميشال سماحة وقد نقصه عنصر أساسي: الكرة الحمراء التي يضعها المهرج على أنفه، لكي يضحك المشاهدين. 

وإذا كان اللبنانيون ضحكوا طويلاً لحكم السنوات الأربع ونصف سجناً بحق سماحة، بصفته من شر البلية، فإن مقاطع الفيديو المسربة جاءت لتضحكهم، كما لم يضحكوا منذ وقت طويل، وهم يتفرجون على هذه العروض الرائعة من الكاميرا الخفية التي وقع في فخها شخص بحجم ومكانة "مستشار" لرئيسٍ مثل بشار الأسد.

إنه فعلا عرض نادر، يكاد يرقى إلى فن الرواية الساخرة، سرد كيف يمكن أن يقع سياسي مثل سماحة، طالما حافظ على صورته وقوراً ومتزناً وجدياً وخبيراً في خبايا الأمور وخفاياها، في فخ تصديقه هذه الصورة عن نفسه، والانسياق خلف التضخم الذي أصابه، وجعله يظن أنه قادر على رسم استراتيجيات كبيرة.. على صناعة التاريخ بالعبوات الناسفة.

وفي سبيل أن يحظى بالدخول إلى الحلقة الأضيق لرجال القرار في البعث، قرر ألا يكون مستشارا للأسد فحسب، بل جندياً في جيشه الباسل، خائضاً الوحول من أجله، ناقلاً جحيماً صغيراً، إذا انفجر لخطأ ما على الطريق، بخّره ورفيقه في السفر، الضابط السابق جميل السيد الذي عرف عنه، للأمانة، شدة الحنكة والذكاء والنباهة. أما لو انفجر هذا الجحيم في موقف بيته، لقتله مع أفراد عائلته.

قبل بأن ينزل إلى هذا الدرك من الوضاعة، في سبيل أن يرى أهميته، وقد وصلت إلى أقصاها. الرجل الذي يسكنه، على الأرجح، شعور عميق بالنقص، وجد فرصته الكبرى في مخطط التفجيرات. المذهول بمعجزة البعث تخيل المكافآت التي ستنهال عليه من معلمه الصغير، علي المملوك، أو الكبير، الرئيس. تحمس بشدة، وأخذته حماسته إلى الخفة. تخلى عن الوقار المعروف عنه أمام الشاشات، وصار ما رأيناه أمام الكاميرا الخفية، يلتهم الصبّارة تلو الأخرى، بينما يحكي في كل الأشياء، بمعنى كانت أو بدونه. والمخبر الذي يبدو مبهوراً بكل كلمة يقولها رجل الصبار يقبض على نقاط سذاجته كلها، يلفه على مهلٍ بخيوط لن يفلت منها بعد ذلك. وآكل الصبار اعترف، ولم تكن أهم اعترافاته القيمة الصحية للثمرة الشهية، لكنه كان الاعتراف الوحيد الذي نبه اللبنانيين إلى أن هذا الرجل يأكل فاكهة، ولا ينال حصته الغذائية اليومية كاملة من مص الدماء فحسب.

اعتراف كان أشبه بالوشاية عما قد يتحول إليه سياسي حين تنتفي الأخلاق. وهو من البلاهة بمكان أنه، بينما يهرج، أثبت على سيده ورب نعمته، بدليل ملموس لن يُمحى، ما لم يعرف اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون يوماً إثباته بهذا الوضوح عن منظومة وآليات تفكير هذا النظام الذي أجاد كل فنون الإجرام ومحو الأدلة، وفي أحيانٍ كثيرة، محو المنفذين عبر الانتحار اللاإرادي، أو غيره من أساليب الموت الرحيم غير المنطقي، حتى لعزرائيل نفسه.

آكل الصبار هو الوحيد الذي، لشدة ولهه بنظام الرئيس، ورطه في ما لم تستطع محكمة دولية أن تورطه فيه. وهو من أهم شهود العصر على نظام البعث، حين سيقف أمام العدالة التي ينبغي أن يقف يوما أمامها. هو شاهد غال، وعليه ربما أن يتعرف، وهو الباحث الاستراتيجي، كيف يحمي نفسه من قضاء البعث وقدره.

استمر المتحمس في خفته حتى المشهد الأخير. راح يلهث بعمق، بينما ينقل المتفجرات من صندوق سيارته إلى صندوق سيارة المخبر. بيديه حفر حفرته. وفي النهاية التي تحتاج إلى سينمائي عظيم، لتخرج كما خرجت، رأيناه ينفض يديه: كبيلاطس. كانتا فعلاً كبيرتين، كأنهما يدا مهرج. المهمة تمت. بطل فيلم الكاميرا الخفية دخل تاريخ لبنان مهرجاً بيدين كبيرتين ويضحك اللبنانيين كثيراً، في نهاية مثالية لتحول المأساة إلى ملهاة. آكل الصبار بات أضحوكة إلى الأبد. العدالة ماكرة وساخرة، ولها طرقها الرائعة في عقاب مصاصي الدماء.