بعيداً جداً عن "أخميم"

بعيداً جداً عن "أخميم"

25 مايو 2015

الطفلة المصرية تا – إيست

+ الخط -
يجد عمال النظافة أشياء غريبة في حاويات القمامة، ويجد الذين ينقِّبون في مكبَّات المخلفات البشرية أشياء أغرب. حدث أن وجد الأردنيون، أكثر من مرة، أطفالاً حديثي الولادة في حاويات القمامة، أو بالقرب منها. جاء وقت سمعنا فيه، على نحو مزعج ومتواصل، أخباراً كهذه في عاصمةٍ محافظةٍ كعمَّان، ولم يتوصل المعنيون، على الأغلب، إلى من قام/ ت بهذه الفعلة الشنيعة. كان المقصود من ذلك التخلّص من "جسم الجريمة"، أو دليل "العار" إلى حيث تنتهي النفايات البشرية، لا أن تكتب حياة لهذا الطفل الوليد، أو ذاك، لأنَّ من يرغب في إعطاء فرصة حياة لطفل وليد، بصرف النظر عن ظروف حمله وولادته، لا يضعه في مكان يَزري بكرامة الكائن البشري. 

يذكّرني الحديث عن النفايات التي ينتجها البشر ورحلتها إلى التواري عن الأنظار بمقال للكاتب الإيطالي، إيتالو كالفينو، رأى فيه هذا "التمثيل اليومي" للنزول إلى العالم السفلي، عبر "جنازة القمامة" المنزلية، أو البلدية، فعلاً يؤجل المرء، من خلاله، جنازته الشخصية، ولو فترة بسيطة، ليؤكد أنه كان منتجاً للفضلات، وليس فضلات نفسه! في الحالة الأردنية السابقة، وما يشبهها في أي مكان آخر، يتعلق الأمر بجزء من جنازة المرء نفسه، وليس بجزء من فضلاته. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد حدث، أخيراً، التالي:

في بلدة فرنسية، تدعى روييل مالميزون، يوجد فيها قصر الإمبراطورة جوزفين، زوجة نابليون، جاءت امرأة فرنسية إلى مكب نفايات البلدة، وسألت المسؤولين أين يمكنها التخلّص من حاجياتٍ لا تريدها. كانت هذه السيدة قد عثرت على مومياء في قبو بيتها، بعدما قامت بتنظيفه وترتيبه. قالوا لها هناك. وأشاروا إلى المكان. رمت السيدة المومياء التي عثرت عليها في قبوها، ومضت. أثار ما رمته السيدة انتباه إحدى العاملات في مكتب النفايات التابع للبلدية.
كان شيئاً غريباً، شيئاً غير عادي، قد لا يصادف المرء مثله في حياته، فضلاً عن أنه لا يُرمى في مكانٍ كهذا. اتصلت العاملة بمتحف البلدية للتحقّق من طبيعة هذا "الشيء" الذي يراد له أن يهرس مع النفايات الأخرى. لم يحتج مندوب المتحف وقتاً ولا تفكيراً، ليقول إن ما رمته المرأة المجهولة هو مومياء فرعونية، لكن الأبحاث التي أجريت على تلك المومياء استغرقت وقتاً أطول بكثير، فعلى مدار عقد، خضعت فيه المومياء المصرية إلى بحوث وتصوير حتى صار بالإمكان عرضها في المتحف، تبين أن هذه المومياء تعود إلى طفلة مصرية من مدينة أخميم، في صعيد مصر، تدعى تا – إيست، كما هو مكتوب على تابوتها بالهيروغليفية، جلبها إلى فرنسا أحد الجنرالات الذين رافقوا نابليون في حملته على مصر. أما كيف انتهت المومياء في قبو تلك السيدة، فهذا أمر يتعلق بالتحقيقات الفرنسية، ولا يعنينا في شيء.
ما يعنينا هنا هو المصير العجيب للطفلة المصرية تا – إيست المتحدرة من الطبقة الوسطى في أخميم، والتي وجدت في حالة جيدة، على الرغم من مرور نحو ألفي عام على وفاتها، وانتهائها إلى مكبّ نفايات. ما يعنينا، أيضاً، أن مصر كانت نهباً لنابليون، وغيره من المستعمرين. فقد كان سهلاً، كما يدل عليه مصير تا – إيست، أن يتأبط أي ضابط استعماري مومياء، أو مسلَّة، أو تمثالاً ويمشي من دون حسيب أو رقيب. يفهم المرء سرقة ضابط استعماري تمثالاً أو آنية فرعونية، أو أوراق بردي، ولكن مومياء طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها أربع سنين! هذا يدل على أن مصر كانت "سداح مداح"، كما يقول المثل الشعبي. ولمعرفة حجم المنهوبات الأثرية المصرية ونوعيتها، يكفي أن يزور المرء "اللوفر" و"المتحف البريطاني" اللذيْن يكادا أن يكونا فقيرين، خصوصاً الأخير، لولا الآثار المصرية. بعد ألفي عام على وفاتها، ها هي الطفلة تا – إيست، ابنة الطبقة الوسطى المصرية، تتمدَّد في تابوتها الذي يحمل صورة طائر أمام أنظار رواد متحف روييل مالميزون.. بعيداً جداً عن "أخميم".
 
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن