بعد أن تسكت المدافع في الشرق العربي

بعد أن تسكت المدافع في الشرق العربي

03 ابريل 2015
+ الخط -
يمكن بالنظر إلى الخريطة، بناء ملاحظات بديهية، عن متوالية التغيرات والأحداث الكبرى في الشرق، وليس من شك في أننا، دول المنطقة وشعوبها، في مواجهة تحديات وخيارات قاسية، لا يمكن تجاهلها وتناسيها؛ الفوضى وغياب الاستقرار والقانون، كيف ظهرت مرة واحدة الحروب والصراعات الأهلية؟
النظر إلى الأحداث من مدخل الربيع العربي يرد الصراع إلى الفساد وغياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضعف وترهل مؤسسات الدولة السيادية وتطبيق القانون بعدالة ومساواة، والنظر إليها من مدخل التحولات السياسية العالمية يردها إلى انهيار منظومة التوازن والصراع الدولي، عندما انهار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم، ودخلت منذ عام 1990 في سلسلة من التسويات والتراتيب، أنشأت حالة من غياب الاستقرار والفوضى، كما حدث في البلقان وأفغانستان والعراق وأفريقيا. ومن مدخل تاريخي، فإن الدولة الحديثة التي تشكلت بعد الاستقلال وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد مجال لتأجيل الاستحقاقات التي أوقعت النخبة السياسية والاقتصادية نفسها، وبلادها ومجتمعاتها، فيها، فما زالت متوالية الحداثة واستحقاقاتها تراوح بين الضغوط والمقاومة.
وفي النظر إلى المآلات المتوقعة، ومن أي مدخل تفسيري، أو تحليلي، لما يحدث تظل ذات مصداقية وقبول مقولة إن إعادة بسط القانون وسيادة الدولة في بؤر الفوضى والصراع، لن يكون سوى حل مؤقت، يخفي أسباب الصراع والانهيار ودوافعهما، فقد ثبت، بالتجربة الواضحة، أن القوة العسكرية والأمنية لا تكفي للاستقرار، فقد كان في العراق وسورية والاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا مؤسسات عسكرية وأمنية قوية ومتماسكة وهائلة القوة والنفوذ.
لا ينشئ الاستقرار والتعاون غير أسواق ومؤسسات، يجد فيها وحولها الناس مصالح وفرصاً يتمسكون بها، ويدافعون عنها، ويتخلون لأجلها عن الصراعات والروابط القرابية والطائفية، فلا يوحّد الناس مثل المصالح والمؤسسات، وعندما تفشل المؤسسات السياسية في تطبيق القانون والعدالة، ولا تعود الأسواق مورداً وأملاً للناس، ولا يحصل المواطنون على الخدمات الأساسية التي تديرها الحكومة، من التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، أو لا يجدونها بالمواصفات والمستوى الذي يليق بتطلعاتهم، وما يحبون أن يكونوا عليه، لا يعود مجال للحديث عن الهوية الوطنية الجامعة، ولا الانتماء للدولة ومؤسساتها، سوف يرتد الناس، بالتأكيد، إلى مكوناتهم السابقة للدولة من الطوائف والإثنيات والقبائل، بحثا عن الأمان، وتعويض ما حرمتهم منهم الأسواق والحكومات.
 
لم يعد التقدم أو الفشل فكرة معقدة، أو يحتكرها المختصون، لكنها تحولت إلى ثقافة عامة متاحة، يمكن ملاحظتها، ببساطة وبداهة، في المؤشرات التي تقدمها المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي. فتقرير التنمية البشرية، على سبيل المثال، والذي تصدره سنوياً هيئة الأمم المتحدة، ويتاح على الإنترنت باللغات الرئيسية، يقدم، بوضوح وبساطة، أفكارا ومقارناتٍ يعرف بها كل مواطن أين يقف، هو ودولته، ويقارن نفسه بمواطني كل دول العالم، ويقارن دولته بكل دول العالم.  
وبمطالعة هذا التقرير السنوي، والعودة إلى تقارير السنوات الماضية، منذ بدء صدوره في عام 1990، وهي أيضا متاحة مجاناً لكل من يصل إلى الإنترنت، يمكن أن نرصد مسار دول المنطقة، وإلى أين تمضي، ثم نقدر ببساطة الفجوة بيننا وبين العالم. وفي اتساع هذه الفجوة، تحولت المنطقة إلى سياق خارج عن حركة العالم ومساره في النمو والعلاقات الداخلية والإقليمية، ويمكن، ببساطة أيضاً، القول والتقدير كيف نساعد أنفسنا.
الدول الناجحة جميعها (عدا الصين) تتميز بمنظومة سياسية وقانونية، تحمي الحقوق العامة، وخاصة حقوق الملكية، وتشجع الاستثمار والمبادرات والإبداع، ويجري فيها تنافس عادل على الفرص والموارد، ويطبق القانون بشمول وعدالةٍ، لا تستثني أحداً، وينعكس ذلك، مباشرة وببداهة، على التعليم والدخل والصحة والتكامل الاجتماعي.
صحيح أن الصين تمثل استثناء من هذه القاعدة، فهي تدير نمواً اقتصادياً سريعاً في ظل استبداد سياسي، أو ما يمكن تسميته التقدم الاستبدادي، وهو تقدم يذكّر بإنجازات الاتحاد السوفييتي، أيضاً، لفترة، حيث استطاع أن يدير منظومة اقتصادية وتصنيعية، ويطور التعليم والخدمات بسرعة وكفاءة، لكنه لم يقدر على إدامة نموه الاقتصادي، وهو ما يرجح حدوثه في الصين أيضاً، فلا يضمن إدامة النمو والازدهار سوى مصالح شعبية وفردية ومجتمعية واسعة، وأسواق تجد لها مصلحة في التقدم والازدهار. وأما الاعتماد على الإرادة السياسية وحدها فهو اعتماد على مصدر غير مضمون، ويتعرض للتغير بتغير القادة أنفسهم، أو مع مرور الزمن.
سوف ينتهي الصراع حتماً في الشرق العربي، وسوف يكون هناك منتصرون ومهزومون، لكن الانتصار الحقيقي هو عندما تلتقط المجتمعات والنخب الدرس القاسي، وتجد فيما دفعته ثمناً أفكاراً وسياسات تمنع تكرار ما حدث... أوروبا، على سبيل المثال، دمرتها تقريبا الحرب العالمية الثانية. ولكن، يمكن، اليوم، الاستنتاج، بوضوح وثقة، أن الحرب لن تعود إليها أبداً، وأنها تنشئ منظوماتٍ من المصالح والمؤسسات والأفكار، تجعل الصراع العسكري والحروب فيما بينها أمراً مستحيلا.
تمر الدول والمجتمعات بكساد وفقر، أو تقدم وازدهار، فذلك أمر تحكمه دورات طبيعية وشبه حتمية من الإنتاج والتسويق والعمل،.. ولكن الدول والمجتمعات التي تحافظ على مبادئ لا تتخلى عنها في تقديم المبدعين وإتاحة الفرص بعدالةٍ، تجد، دائماً، حلولا ومخارج لأزماتها. وفي المقابل، إنها حين تغلق باب العدالة تنشئ متواليةً تبدأ بقتل الإبداع وانكماش الأسواق والأفكار، فيتوالى الفشل، وتبتعد الحلول عن الأفق.
428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"